حالة العبثية والفوضى التي يمرُّ بها الشَّمال السّوري قد تلوّح لكثيرين باليأس، وهو يأسٌ مبني على وقائع سيئة متكررة حدثت وما زالت تحدث حتى اللحظة، من نزاعات فصائلية، تفجيرات واغتيالات، انفلات أمنيّ، وفساد وجهل وبطالة وأيضاً شبه غياب كامل عن الإلمام بالثقافة السياسية والمواطنة مما يجعل أي فكرة للتغيير والتفاعل معه، أو الرغبة بالمساهمة فيه من قبل السوريين في كل مكان صعبة التحقيق.
وعلى الرّغم من عدم وجود جهود واضحة ومحددة على المستويات الرسمية العليا في ضبط الأمور بالشكل المطلوب في المنطقة، ونتيجة لعدم استقرارها من ناحية الأمان، والاستقلالية، وبسبب تشتت الجهود القضائية والعسكرية، إضافة لدور الرقابة غير المنضبط، فإن هناك جهوداً بسيطة على صعيد المجتمعات الأهلية، ومنظمات المجتمع المدني، تهتم وتسعى في هذا الإطار، فنجد جهوداً تسعى في إطار فض النزاعات، وأخرى تنشر ثقافة المواطنة والديموقراطية ومبادئ الحقوق والواجبات، وثالثة مهمتها أن يتعلم الإنسان كيف ينجو بنفسه بأقل ضرر ممكن، وكلها جهود مهمة ولازمة، ولكن تأثيرها يبقى على شرائح محدودة، إضافة لكونها لا تتجاوز مهمة نشر الثقافة العامة، وهي بعيدة عن التطبيق، لسبب وجيه، هو أن تطبيق هذه الأسس والدعائم يحتاج إلى حكومات وأجهزة أمنية وعسكرية وقضائية، وأجهزة شرطة ضابطة، إضافة لأهمية وضع هذه المبادئ ضمن المنظومات التعليمية والتربوية وحتى الإغاثية التي تتواصل وتحتك بشكل كبير وواسع مع الناس، وتؤثر في الشريحة الكبرى منهم.
وتعد مسألة خلق التغيير في المجتمعات، وإحداث نقلة نوعية فيها، أو نقطة تحول في مجريات الأحداث أكثر القضايا إشكالية، كما تعتبر هاجساً لا انفكاك عنه لكثير من الأحرار الغيورين الذين يحملون على عاتقهم إنقاذ المجتمعات أو التخفيف من واقعها السيء قدر المستطاع.
يقول مالكولم جلادويل في كتابه “نقطة التحول” بأن هناك خصائص ثلاث بوسعها إحداث تحول وتغيير في المجتمعات، أولها: العدوى، فإمكانية تحويل الفكرة إلى فيروس أو وباء أمر كفيل بانتشاره على أوسع نطاق، ويمكننا أن نلحظ كيف انتشر الربيع العربي وامتد، وما زالت المظاهرات والاحتجاجات والثورات في مدن وعواصم عربية تظهر كلما يئس الناس من إمكانية التغيير. أما الخاصية الثانية: فتقول بأن الأشياء الصغيرة قد تُحدث تغييرات كبيرة، والمهم امتلاك الجرأة والقدرة على القيام بها، الأمر الذي يجعلنا نراقب خط الزمن خلال الأعوام الفائتة، في مختلف دول العالم، وكيف تحولت أحداث صغيرة إلى رأي عام وقضايا كبرى، وأما الخاصية الثالثة فهي عكس ما يخيّل لكثيرين، لأنها تؤكد أن التغيير لا يحدث تدريجياً وإنما في لحظة حاسمة واحدة، ولنعد إلى فكرة ظهور الأوبئة فجأة، وانحسارها فجأة أيضاً، وبإمكاننا أن نلمس هذا فعلياً بما حصل في الكوكب مع كوفيد-19
يضرب الكاتب مثالاً لهذا ما حصل في الأحياء الفقيرة شرق نيويورك في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، حيث كانت تتحول مع غروب كل يوم إلى مدن أشباح، لا حركة للناس على الأرصفة، لا أولاد يلعبون في الشوارع، ولا كبار سن حتى في الحدائق، الجميع يلوذ بمنزله طلباً للأمان، حيث انتشرت تجارة المخدرات وحرب العصابات، وعانت أجهزة الشرطة كثيراً وهي تواجه كل أنواع العنف، لكن فجأة، وخلال خمس سنوات فقط، انخفضت جرائم القتل بنسبة 64.3 بالمئة، وانخفضت الجرائم الإجمالية إلى النصف، وعادت الأرصفة تمتلئ بالناس، ويُعزو الكاتب ذلك إلى أسباب متعددة، أهمها التحسن في استراتيجيات أجهزة الشرطة، وتأثيرها في حالات باتت تتصرف بشكل مختلف تماماً، هذا السلوك الذي انتقل بدوره إلى مجرمين محتملين آخرين أصيبوا بفيروس مضاد للجريمة، إضافة لجهود المكافحة المجتمعية لهذه المشكلات، وجهود تنظيم تلك الأحياء، تنظيم الأرصفة والطرقات، وإصلاح النوافذ المكسورة بشكل سريع ومنتظم، ترك انطباعاً قوياً بحضور أجهزة الدولة ورقابتها المستمرة، مما أدى لتوخي الحذر بشكل كبير ومضاعف، مما قلل حدوث الجريمة في تلك المناطق، فكانت نقطة التحول وإحداث التغيير واقعاً.
وبالعودة إلى واقعنا السوري عموماً، فإننا نجد أنفسنا في الحالة الراهنة أمام خيارين: الأول: انتظار سقوط النظام وانتخاب رئيس وحكومة جديدين، الأمر الذي قد يطول أمده أو يقصر، والثاني: أن نبدأ بتحديد أكثر الأفكار المؤرقة، والعمل على إنتاج فيروس مضاد، ونشره بكل وسيلة، وبتوحيد الجهود فإن الفرق يتحقق والتأثير لا بد أن يظهر. إن الأمر رهن بأولئك الشجعان الذين يحملون هموم قضيتهم، ويمتلكون التأثير والفاعلية والإقناع ليتجندوا لأمر كهذا، وحقيقة لن نتغير ما لم نؤمن بأننا نستطيع.