مقدمة
أعادت الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الائتلاف الوطني السوري مسألةَ إمكانية إصلاح مؤسسات المعارضة والثورة السورية إلى الواجهة، وأعادت التفكير في أسباب وصول هذه المؤسسات إلى حالة العطب الذاتي وقلة التأثير، فمعرفة السبب جزء من الحل، وسلوك الطرق ذاتها يوصل إلى النتائج ذاتها.
إن الظروف الحالية للحالة السورية، بكل ساحاتها السياسية والعسكرية والإدارية والثورية والاقتصادية، والتعاطي الدولي إزاءها، تقول إنّ كلّ شيء تغيّر، وإنّ السنوات الإحدى عشرة التي مرت تفترض منطقيًا وجود هذا التغيير، فهل يمكن الحديث -مع كلّ تلك التغيّرات- عن إبقاء مؤسسات المعارضة بمعزل عن التغيير؟ أعتقد أن الجواب البديهي أنه لا يمكن، بل إنّ تأخّر التغيير والمواكبة لمجريات الحال السوري خطأ بذاته يدلل على قلة المرونة.
عندما نتحدث عن التغيير، لا نقصد وجوه المعارضة فقط، بل نقصد أيضًا مناهج تعاطي تلك الوجوه وواقع الحال، وضرورة وجود خطط إستراتيجية تطبقها مؤسسات كفؤة، تنطلق من متطلبات الواقع والشارع السوري إلى الخارج، لا العكس، فلا تُسقط إملاءات الخارج على الوضع السوري دونما رؤية سياسية واضحة، لتكون الخلاصة تحقيق كل دولةٍ لمصالحها مع غياب كامل لمصالح الشعب السوري الذي قدم مئات آلاف الشهداء والمعتقلين، فضلًا عن ملايين المهجرين، لأجل حريته وكرامته، وغيّرت سنوات ثورته حياة كلّ أبنائه، فقطعت أوصال أسرهم، وضيّعت ممتلكاتهم وحقوقهم وجعلتهم هائمين على وجوههم، ما بين نازح ومهجر وراكضٍ خلف لقمة العيش.
أمام كلّ هذه التضحيات وإصرار السوريين بشكل منقطع النظير على التغيير، كان لا بدّ من القول بلزوم إصلاح مؤسسات المعارضة، بما يتناسب وحجم المسؤوليات والتضحيات؛ فالجسد الصحيح لا حراك له من دون رأس صحيح، ولا يمكن لشعب أن يحقق هدفه في التغيير والتطوير من دون قيادة تجمع إمكاناته وتحدد خطّ المسير.
انقلاب أم انصلاح
ما انفكّت كلمة إصلاح مؤسسات المعارضة تطرق آذان السوريين كل يوم، وما انفكت المطالبات بالإصلاح تصدر عن أفواه التجمّعات والمكونات والساسة، ولكن ما إن ظهرت بعض القرارات التي قد تؤدي إلى شيء من التغيير، حتى بدأت الأفواه بالحديث عن التخوين والتشكيك بغاية القرارات، وإظهار أنها تصفية حسابات، وهي التي لمّا يظهر خيرها من شرها، وبتنا نرى من كان يطالب بإنهاء تحكّم “تكتّل ما” بمفاصل القرار الثوري، بحسب زعمه، يتساءل هو ذاته عن سبب إنهاء تحكّم ذلك التكتل!
استبعد الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية، قبل أيام، 14 عضوًا من أعضائه، وأتبعهم بثلاثة آخرين، وأنهى عضوية أربعة مكونات من هيكليته، وهي: “حركة العمل الوطني”، و”الكتلة الوطنية المؤسسة”، و”الحراك الثوري”، و”الحركة الكردية المستقلة”، وزاد من تمثيل “رابطة الممثلين الأكراد”، من مقعد واحد إلى ثلاثة، وصوّت على عضوية ممثلي كتلة الحراك الثوري، فأبقى على الرئيس السابق للائتلاف نصر الحريري، وهشام مروة، كمستقلين، واستبعد ياسر الفرحان، ليظلَّ من تلك الكتلة عضوان، هما يحيى مكتبي ومحمد الدغيم، وقيل إنهما يتبعان لتكتل آخر هو الحراك الثوري المستقل، وإنهما كانا من أعضاء المجلس الوطني في وقت سابق. وقبل التصويت على النظام الأساسي الجديد الذي أُقر بأغلبية 60 صوتًا من أصل 64، استقال كلٌّ من محمد ولي وحواس خليل.
لاقت قرارات الائتلاف ترحيبًا من كثيرين، ولاقت انتقادات من بعض المبعَدين من أعضائه، إذ وصفوا ما جرى بعملية انقلاب، فأصدر بعضهم بيانات لم تخلُ من التُّهم، بل وصلت الحال بآخرين إلى إنشاء ائتلاف جديد. في حين أن القيادة الحالية للائتلاف قالت: إن قرارات استبعاد الأعضاء، وإنهاء تمثيل بعض التكتلات، جاءت تناغمًا مع الواقع، فهناك تيارات وتجمعات لم يعد لها وجود على الأرض، وهناك من هو أحقُّ في التمثيل منها ضمن مؤسسة الائتلاف، مثل تجمعات لها وجود فاعل، ولا سيّما في الشمال. وقالت إن القرارات جاءت عقب دراسات قامت بها لجنة مختصة، شملت الأعضاء المستبعدين، وشملت النظام الأساسي الجديد، بدأت منذ تسعة أشهر، وناقشتها الهيئة السياسية، وناقشت مقترحاتها منذ ثلاثة أشهر.
بين النقد البنّاء والنقد لمجرد النقد
لعلّ المتابع للشأن السوري لا يستغرب حجم الانتقادات التي لاحقت القرارات التي أصدرها الائتلاف أخيرًا، فالملاحظ أن أي قرار من قرارات المعارضة محلّ اعتراض، بغض النظر عن مضمونه. وهو ما يمكن إرجاعه إلى حالة اليأس التي خلّفها طول المرحلة الثورية، والشلل الذي أضفته الدول على مؤسسات المعارضة، التي تتحمل دون ريب جزءًا لا بأس فيه ممّا آلت إليه الأوضاع. لكن لا حلّ إلا بإصلاح تلك المؤسسات، والقول بهدمها قول مردود، فالظروف الدولية تغيّرت، والظروف الداخلية السورية كذلك، وحالة التفرقة والتشتت التي تمرّ بها قوى الثورة السورية بشكل عام لا تحتاج إلى دليل. ولذلك فإن هدمها يعني خسارةَ المكاسب الدولية التي أحرزتها هذه المؤسسات، وإزالةَ الاعتراف الدولي بوجودها وبكيانها ضمن أروقة الأمم المتحدة، وضمن المجتمع الدولي الذي لا سبيل للاستغناء عنه، وإن لم يكن مفيدًا للنصر.
تُعدّ مؤسسة الائتلاف مؤسسة ثورية وحيدة تحظى باعتراف دولي، وإن إصلاحها مطلب ثوري، طالب به السوريون خلال المدة الماضية. ولا يمكن أن نزعم أن ما جرى من إقالات لأعضائه خطوة كافية لإصلاح المؤسسة، لكنها يمكن أن تكون خطوة يمكن الاستناد إليها في إصلاحها، وبيت القصيد في ذلك هو التمكن من إصلاح آلية اختيار الأعضاء الجدد، فلو تمكنّا من الدفع نحو إقرار آلية تمكّن السوريين من اختيار هؤلاء الأعضاء بما يضمن تمثيل الشارع الثوري، فيمكن حينئذ رفد الائتلاف بأعضاء جدد يكونون أقرب إلى الشارع، ونسبة الربع الذي تمّ تغييره ستكون بوابة ربما لتغيير بقية الأرباع، وفق الآلية التي تحدثنا عنها، لنجد بعد فترة وجيزة أن النسبة الأكبر التي تملك القرار في المؤسسة هي نسبة تمثّل الشارع السوري قدر الإمكان وفق المتاح، وفي ظلّ غياب التمكن حتى اللحظة من إطلاق انتخابات حقيقية تجعل من المؤسسة برلمانًا حقيقيًا للسوريين.
وهنا، لا بدّ من ملاحظة الفترة الزمنية اللازمة لتمكين الأعضاء المنتخبين من تنفيذ برنامجهم الانتخابي، والخروج من دوامة التغيير غير المجدي قصير الفترة والعاجز عن تنفيذ خططه، فتغيير الواقع لا يمكن أن يتم بأوقات قياسية، وكما قيل “من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”.
وفي هذا الإطار، ربما يقول قائل: أوليس الائتلاف يمثّل السوريين منذ عشر سنوات؟ ونقول نعم، وهذا يدلل على التقصير الذي له أسبابه التي سنوضحها، وهي ترتبط بآلية التكوين والانفصام بين الجمهور والقيادة، وفلسفة التخوين التي درجت، والرفض والاعتراض والتذمّر الدائم الذي يضعف المؤسسة أمام الفاعل الدولي، ويخرج المؤسسة أمام ذلك الفاعل بموقف الضعيف غير المرغوب فيه شعبيًا، والذي دفع المؤسسة في المدة الأخيرة إلى الاستكانة والهزالة والعجز.
عطب الذات
إن دلالة كلمة “الائتلاف” تدلّ على بنيته، فهو توافق بين قوى سياسية مختلفة، وربما تكون متخالفة ضمن الجسم السياسي الواحد، ولذلك من الطبيعي أن تجد ضمنه تيارات وتكتلات، وقد تتّحد تلك التيارات على هدف إسقاط النظام، كما هو معلن، إلا أنها تختلف بالمنهج والمصالح الذاتية، وهنا كان العطب الذي تحدّث عنه برهان غليون، في كتابه “عطب الذات”.
لعلّ من الصحي والطبيعي أن يكون أي جسم سياسي يمثل شعبًا ما يحوي تيارات مختلفة وآراء متباينة، فهذا هو الحال ضمن كل المجالس الشعبية التي تُشكّل ضمن الدول، وتحوي تيارات، وتشهد صراعات على النفوذ ، لكن الشيء الصحي في وقتٍ وزمانٍ ما قد لا يكون صحيًا في مرحلة أخرى. وفي الحالة الثورية السورية، وفي ظلّ الإجرام المتبع من نظام الأسد وحالة الحرب السائدة، قد لا يصلح الاختلاف المحمود في المجالس الشعبية، فالثورة ومجالسها تحتاج إلى قرارات سريعة، تتناغم مع المستجدات الدائمة التي تفرضها حالة الحرب والحالة الثورية، ومع إجرام الأسد، يكون التجانس بين مكونات الجسم المعارض أكثرَ وجوبًا، ولذلك هناك من يقول إن المصطلحات الرنانة التي تصلح في المجتمعات المستقرة لا تصلح في الحالة الثورية السورية قبل إسقاط الأسد. ولكن هل كان ذلك التكوين، وتلك الآلية في إنشاء الائتلاف، وفق ما ذكرنا من مبادئ سامية تؤدي إلى صراعات صحية في حالة الاستقرار، وتعطيلية في حالة الثورة، أمرًا مقصودًا وغايته العطب الذاتي، أم إنّ النيات الحسنة أفرزت لنا هذا الواقع المعطوب؟! هذه وقفة لا بدّ أن يقوم بها السوريون ليعرفوا موقع الخلل وسبيل الإصلاح المناسب.
ثمة جانبٌ آخر تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، وهو الهدف الذي ترغب فيه الدول بتعاطيها مع الثورة السورية، فالمجتمع الدولي كان قراره مهلهَلًا في نصرة الشعب السوري، وهو ما استفاد منه نظام الأسد إلى أبعد حدّ، وتكرار التهلهل من قبل المجتمع الدولي دفع السوريين للكفر بذلك المجتمع الذي لم يُفلح في نصرة السوريين بأيّ ملف، حتى إنه لم يستطع إطلاق سراح معتقل واحد، واكتفى دومًا بالأقوال لا الأفعال، وبإدارة الأزمة لا حلّها، ومع تكرار هذا التهلهل وهذا الموقف الدولي، لم يعُد بعيدًا عن الطرح أنّ ما آلت إليه الحالة السورية من مراوحة في المكان أمرٌ مقصودٌ، ولا سيّما إذا رجعنا بالتفكير إلى لحظة تكوين الائتلاف. ومن المعروف أن الائتلاف كان توسعة للمجلس الوطني الذي ضمّ العديد من الشخصيات السورية الذين توافق عليهم السوريون في ذلك الزمان، وكانت لهم مواقف ثابتة إزاء الثورة، وصفها البعض بالمتحجرة، وكان فيه شيء من التجانس يمكّنه من تلك المواقف، تجانس بالصفة العامة للثورة السورية، فقامت الدول بهلهلة المجلس، وطالبت بتوسعته لإدخال تيارات جديدة فرضها الواقع الثوري السوري والأجسام الجديدة المنبثقة، من فصائل وحراك ثوري ومجالس محلية ومستقلين كان كثير منهم ممثلًا لدول، ثم تم الاعتراف بالائتلاف في الأمم المتحدة.
هنا، إن صحّت فرضية أن المجتمع الدولي أراد الحفاظ على منطق المراوحة في المكان حتى يطول الزمان وتظهر الخلافات فتواجه الثورة السورية بعطب ذاتي، فلا يمكن أن ننظر حينها بعين البراءة إلى ما جرى ولا إلى الهدف من تكوين الائتلاف بالهيكلية التي عرفناها لسنوات، وبما أن غاية المجتمع الدولي هي احتواء الثورة السورية، فلا يُنتظر من الهيكلية الائتلافية الماضية أن تصل إلى النصر، بل إلى ما وُجدت من أجله، وهو إدارة المرحلة وإدخالها بمرحلة التفريز والموت السريري، وهنا تبرز من جديد أهمية استغلال القرارات الإصلاحية التي تفرض تغييرًا في تكوين الائتلاف، وتظهر أهمية استثمارها بالدفع نحو آلية صحية لاختيار ممثلين عن الشعب السوري، وتغيير المعادلة التي نشأ عليها الجسم السياسي الثوري السوري، لعلنا نغير الوقائع ونعود بقيادة الثورة إلى الثورة وإلى الشارع السوري.
تكوينة الائتلاف
يضمّ الائتلاف الوطني السوري قرابة عشرين مكونًا، و 113 عضوًا يمثلونها، ويمثل بعضهم توجهًا وطنيًا مستقلًا، ومن بين هذه المكونات المجلس الوطني السوري، والهيئة العامة للثورة السورية، ولجان التنسيق المحلية، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وحركة معًا من أجل سورية حرة وديمقراطية، والكتلة الوطنية الديمقراطية، وتيار مواطنة، إلى جانب قيادة الجيش الحر، والحراك الثوري، والمجلس الثوري لعشائر سوريا، ورابطة العلماء السوريين، واتحادات الكتاب، والمنتدى السوري للأعمال، وهيئة أمناء الثورة، وتحالف معًا، والمكون التركماني، والمجلس الوطني الكردي، والمنبر الديمقراطي، والمجالس المحلية لكافة المحافظات، إضافة إلى بعض الشخصيات الوطنية وممثل عن المنشقين السياسيين. بقي من بقي منها وأضيف آخر، وبالتالي كل من شارك به يتحمل جزءً من قراراته، وعلينا أن نسعى دومًا لتعديل الائتلاف وتغيير دمائه ليكون مؤسسة تمثل الشارع حقًا، وليس فقط الاكتفاء بمنطق الهدم الذي لم ننل به حتى الآن إلا مزيدًا من الضياع، ولا بدّ أن نغير منهج تعاطينا مع الأمور وأن نطرح بدل منطق الهدم خطط بناء وإصلاح، فلا يكون برنامج عملنا هو هدم الآخر بل بناء الذات وكلٌّ يدلي بدلوه للبناء ويبحث عن المشترك مع الآخرين، فسورية تتسع لجميع السوريين، ولا يمكن تأطير الكل بفكر واحد، المهم وحدة الهدف ونبذ الخلاف حتى تحقيقه.
وكان عدد مقاعد الائتلاف يوم تكوينه 63 مقعدًا، شهد بعدها العديد من التوسعات أوصلت عدد المقاعد إلى 113 مقعدًا، وتعرض الائتلاف لهزّات متعددة، كان أقواها ما جرى عام 2014، حينما انسحب 44 عضوًا من الائتلاف، كان أبرزهم كتلة الصباغ التي خسرت الفوز بأغلبية المقاعد في الائتلاف، وكانت حجة المنسحبين رفضهم قبول بيان جينيف، وهو الذي أصبح مطلبًا للسوريين هذا الزمان. إن حالة التفرق والانسحابات والتشتت أثرت من دون شك في أداء المعارضة السياسي، وهنا نقف أمام إشارة استفهام كبيرة: هل ما جرى من تفرقة هو غباء طبيعي، أم إنه أمر دُبّر في ليل؟!
لقد سعت كلّ المكونات في الائتلاف للعب السياسة في أروقة المؤسسة، لكنها لعبتها في وقت خاطئ، فتحولت إلى عبث سياسي، كان الجميع يحاول أن يضمن لنفسه نِسبَ مقاعد تؤهله من امتلاك القرار في المؤسسة، ولكن انشغالهم بامتلاك القرار أبعدهم عن الهدف الرئيس الذي شُكلت المؤسسة لأجله، وهو إسقاط النظام، وهنا نتحدث عن موجب آخر للإصلاح، ودافع جديد لقبول القرارات الجديدة الصادرة، شريطة استثمارها بالدرب الصحيح، وردف الائتلاف بأشخاص جدد يمثلون الشارع، ودافع لأن يكون شاغلنا هو كيفية دفع المؤسسة على تبني آلية اختيار تمكّن السوريين من تمثيل أنفسهم في الائتلاف، فالائتلاف بحسب تكوينه الأساسي مؤسسة نالت اعترافًا دوليًا، بسبب الظرف السياسي والثوري، وقبل التمثيل الشعبي على عكس ما يفترض في الدول، وهو أن الشعب يختارُ ممثلين فيشكل مؤسسات يعترف بها المجتمع الدولي.
من جانب آخر، فإن من إيجابيات التكوين الاختلافي للائتلاف الحفاظ على مبادئ الثورة ومطالبها، فكل تكتل يضبط الآخر، وهذا ما لاحظناه في البيانات، وإن كان اختلف في الأفعال بشكل غير كبير، وتجلى ذلك الاختلاف في اختيار المسارات السياسية من أستانا إلى الدستورية، وكان لكلٍّ منها ما يبرره لحظة اتخاذ القرار فيها، ثمّ ثبت، على المدى الإستراتيجي، وقوع الائتلاف في المحظور، وهو لعبة الوقت التي عوّلت عليها الدول، لنعود للتساؤل: هل كانت قرارات الائتلاف قرارات مُضطرّ أم جاهل أم مجتهد مخطئ أم عميل أم كل ذلك معًا؟! ولكل فرضية منها مساوئها، وتعود المصلحة مع كل تلك الحالات إلى التغيير.
ليست المؤسسات السياسية وحدها المسؤولة
من الإنصاف بمكان ألّا نُحمّل كلّ الخيبات التي أصابت مسيرة الشعب السوري في ثورته، لمؤسسات المعارضة السياسية والائتلاف فقط، فالعسكر والفصائل كان لهم من فشل المعارضة نصيب كبير، فهم المتحكمون في القرار على الأرض، وكانت تقف المعارك وتطلق بقراراتهم، وهم الذين رفضوا الاندماج والوحدة، وكان كل فصيل بمن معه فرحين، وكان لتلك الفصائل ولاءاتها وارتباطاتها الخارجية المعروفة التي كانت تمتلك قرار إطلاق المعارك ووقفها، فيما لم تكن مؤسسات المعارضة السورية تملك من ذلك القرار شيئًا، فما هي إلا متفرجٌ كحال قائد الفصيل نفسه الذي يتّبع الداعم الدولي، وهذا ما يَرُدُّ به البعض على أن الائتلاف كان يحوي مكوّن الجيش الحر، ويمكن القول في ذلك إن ممثل الجيش الحر الذي يحويه لا يمثل كل فصائل الداخل، بل بعضها. وكان للارتباطات الدولية أثر كبير في توجيه الحالة العسكرية السورية، ومن ثم في توجيه الموقف السياسي لمؤسسات المعارضة السياسية المحكومة بما يجري من اختلاف مواقع سيطرة على الأرض.
من جانب آخر، من الخطأ أن تربط مؤسسات المعارضة السياسية نفسَها بما يجري من تطورات عسكرية على الأرض، فذلك هو الميدان الذي أراد الأسد سحب المعارضة إليه، فمعركتها سياسية تشمل كل سورية، وليست معركةً عسكرية فيها خاسر ورابح لمنطقة ما، في حربٍ طرفها نظام أسدي وجيش قاتل وروس وإيرانيون ومرتزقة من كل مكان، وطيران وأسلحة دمار وكيمياوي، والطرف الآخر شعبٌ أعزل بسلاح خفيف سمّى نفسه جيشًا.
وهنا، على مؤسسات المعارضة السياسية عدم ربط مطالبها ونفسها بما جرى على الأرض من خسارة لمناطق عسكرية، بل استغلاله في خطاب وطني جامع يحجُّ نظام الأسد ويدمغ إجرامه ويعود به إلى دائرته الأولى، دائرة الشعب الذي رفض نظامًا نكّل به قتلًا وتجويعًا وتهجيرًا، وهذا يتطلب خطوات إصلاحية حقيقية تعيد تمثيل المؤسسة السياسية للشعب السوري، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال تبني آليات واضحة لتجديد دماء المؤسسة واختيار أعضائها مرهونين بثوابت وطنية جامعة، وكان الائتلاف قد ذكرها في أصل تكوينه ومبادئه، وهي الحفاظ على السيادة الوطنية، واستقلالية القرار الوطني السوري، والحفاظ على وحدة التراب الوطني السوري، والحفاظ على وحدة الشعب السوري، وإسقاط نظام الأسد بكل رموزه وأركانه، وتفكيك أجهزته الأمنية، ومحاسبة من تورط في جرائم ضدّ السوريين، والتأكيد على قيام سورية المدنية التعددية الديمقراطية.
الإعلام وكلام حق يراد به باطل
منذ انطلاق الثورة السورية، انطلقت مؤسسات الإعلام معها، وغذّتها المنظمات الدولية بأموالها، فتبنت برامج وتركت أخرى، ودعمت مؤسسات إعلامية كل منها له خطاب، ولكل منها غايات وتوجهات وتبعيات، فازداد الضياع لدى السوريين، وغزاهم الخطاب السياسي من كل حدبٍ وصوب، وكان لكل خطاب لون وأفكار يمررها وتتناسب مع سياسة الداعم، وبات الإعلام يشيطن من يريد ويلمّع من يريد، والمشكلة الأكبر أن لا معايير ولا جهة مطبقة لتلك المعايير في ذلك، وقرار الشيطنة والتلميع بيد مديري القنوات التي تتبع مراكز تمويل ومنظمات، فازداد الطين بلة. وصرنا نرى مؤسسات إعلام تتبع لجهات تمويلية معروفة، وهي نفسها تتهم المؤسسات السياسية الثورية بأنواعها “بالعمالة”، فكان كثير من هذه المؤسسات الإعلامية بعيدًا عن خطاب وطني جامع يدفع نحو وحدة الصف لا تمزيقه، تحت ستار شعارات رقابة وإصلاح ومتابعة، وكأن المؤسسات الإعلامية فيها القاضي الرزين الذي يميز الخيط الأبيض من الأسود، وغيره لا يميز شيئًا، ليخرج السؤال: من كان المستفيد من تشتيت الخطاب الإعلامي الثوري السوري الذي بات ينتقد ويعرّض بكل قوى الثورة أكثر مما يعرّض بنظام الأسد الذي خرج السوريون لإسقاطه؟
المستفيد الأكبر
هنا بيت القصيد، المجتمع الدولي هو العقد الجامع لكل مفاصل الفشل الثوري من منظمات إنسانية إلى مؤسسات سياسية وفصائل عسكرية ومجتمع مدني وإعلامي، وسلاح كل ذلك كان المال السياسي. وتزيد الحيرة في المشهد، حين نرى أن المصالح الوحيدة التي تمّ تحقيقها بعد كل هذا الدمار في سورية هي مصالح الدول، وأن الخاسر الأبرز في كل ذلك هم السوريون، وأن الذين سيربحون عقود إعادة الإعمار، فضلًا عن المطارات والموانئ والنفط والموارد الطبيعية، هي الدول التي دفعَت مالًا سياسيًا مكّنها من تدمير بعض السوريين بعضًا، فكفاهم ذلك شرّ القتال. ومقابل رأس المال المدفوع، تمّ حصاد العقود المشار إليها.
إن سياسة إدارة المجتمع الدولي للأزمة السورية أدّت إلى إيقاف الربيع العربي، وإعادة النظام العالمي إلى سابق عهده، مع بعض التغييرات، واستطاعت سياسة إضاعة الوقت إتعاب الشعب، والحفاظ على نظام الأسد المستبد، الذي كفى المجتمع الدولي أثر نهوض الشعب السوري النشط في منطقة حساسة جيوسياسيًا، وأخيرًا كان تقاسم الكعكة السورية وعقود إعادة الإعمار، بعد استكمال الدمار، فضلًا عن السلاح المبيع والديون التي أغرقت سورية، والعقود التي كبّلت كل مواردها، لعقود وسنوات قادمة.
وهنا، نعود لنسأل أنفسنا: ما مصلحتنا بزيادة فرقتنا؟ وإلى متى سنبقى بين عميل مغفّل وعميل عميل؟ وهل أوصلتنا فلسفة التخوين إلى شيء؟ أوليس من الطبيعي أن يكون في كل مؤسسة خائن وصالح وطالح، وأن تمضي سنّة التدافع بينهم؟ أليست الدولة الأفلاطونية وهمًا وخيالًا؟ أليس تغيير حالنا يوجب فهم الواقع واستغلال أي خطوة إصلاح، لإصلاح المسير وتحقيق التغيير ورصّ الصف وتقوية الموقف إزاء الدول لنعود فنحصل على بعض الحقوق من كعكة السوريين التي تقاسمها الجميع، ودفعنا نحن لهم ثمن قسمتهم وتفاهمهم؟!
ضوء في نفق
إن الأزمة الأوكرانية اليوم تفرض واقعًا دوليًا جديدًا يمكن الاستفادة منه، وعلينا استغلاله لصالح القضية السورية، وإثبات أنّ ارتدادات الفوضى التي غُرست في الواقع السوري وصلت إلى أوروبا، وربما تصل إلى مناطق أكثر وأكثر، وعليه فإن الحلَّ في أوكرانيا لا بدّ أن يرافقه حلٌ سوري؛ فالعدو الروسي واحد هنا وهناك، وهذا العدو هو الذي قلب ميزان القوى في سورية لصالح الأسد، لكن مواجهة العدو الروسي لا تعني انتصار السوريين؛ فربما تملأ إيران الفراغ، ما لم تكن قوى المعارضة السورية قد نظّمت نفسها لتملأ ذلك الفراغ، وقد استفادت من أخطائها من فرقتها واستعجالها ما هو مؤجل من تعدُديات ومكاسب وصراعات سياسية، وهنا تأتي أهمية قرارات الإصلاح المفترض، إن حَسُن تعاطي السوريين معها، فهي إما خطوات صدق ندعمها، وإما ادعاء نستغله لإعادة فرض آليات يتوافق عليها السوريون، وتكون أقرب ما يكون من ضمان تجدد مؤسسة الائتلاف بأعضاء يمثلون الشارع السوري حقًا.
وأمّا القول إن المعارضة لا يمكن إصلاحها ويجب هدمها، فهو قولٌ فاسد ،فما عادت الأيام كتلك الأيام، وما عادت الأحوال كتلك الأحوال، والأجدر هو إصلاح المؤسسة التي اعترف بها العالم ندًّا لنظام الأسد، وكانت ندًّا ضعيفًا بذاته، وأضعفناه بفرقتنا أكثر وأكثر. وإن السبيل الصحيح للتصحيح، هو التوحد وتحديد الهدف واستغلال الإصلاح ونبذ التخوين والاستفادة من تجارب أداء سيئ مضى، ربما يحاسب من أوصلنا إليه ذات يوم، ويجب في هذه المرحلة عدم الوقوف عنده، وعدم استجرار الندب والنوح ورثاء الأطلال، فالثورة -في نظر كثيرين- ما زالت مستمرة، وهناك اعتقاد ثابت بـأنها ستنتصر، والمماطلة والعَطَلة والتفرّق والتخوين لا تفيد إلا نظام الأسد.