هل يفقد الثائر بوصلته؟

نوفمبر 29, 2022

إيمان محمد

مقالات

أيّام الحِصار في حمص كنت وكلما انتابتني غيمة قلق، أجد نفسي أفتش عن مثالٍ أحتذيه يمدني بالقوة.

لم تكن تلفتني كثيراً عبارات المبالغين بمعاني الصمود والبطولة، ولا المبالغين بعبارات الهزيمة والانكسار، بقدر ما يلفت نظري الكلام المتعقل الواعي، والفعل الواعي المتصل، الذي لا تقطعه موجات الشائعات، ولا تدمره كثرة الصواريخ وإن دمّرت المكان الذي ينتجه.

وكنت مغرمةً بالتفتيش عن نماذج ثورية ناجحة في سوريّة، فدرست أحوال المجلس المحلي في داريّا، وتتبعت بشغف نتاج كفرنبل المُلهم رسماً وعبارة تعطي ومضة وتأثيراً في تزاحم الأفكار والأحداث، كما كانت أناشيد الساروت تهز الأرض في حارات مدينتي، وتحرك مشاعر الثائرين خارجها، وكان أحد هواجسي متابعة المشاريع التعليمية في الغوطة وغيرها، ومتابعة المعسكرات المتميزة وطرق الإعداد الذي تنافست في إبراز قوته الفصائل، تماماً كما كنت أستمدّ قوة وأنا أتابع عملية حفر الأنفاق، وكأنما أحفر لي في دماغي نفقاً يوصلني إلى نور في نهايته، في الوقت الذي كنا بحماس الثائرين فيه نفتش عن مخرج.

مع تتابع الإحباطات والهزائم والانتكاسات،

بدا لي البحث عن مصدر للقوة ممثلاً في أشخاص أو مشاريع أمر أشبه بالسّراب، ليس لكونها أكذوبة بالضرورة، فكما ظهرت فقاعات أبهرت ولفتت الأنظار في بدايتها ثم أثبتت أنها وهم وخدعة، فهناك فعلياً نماذج نجحت وكان يُشهد لها بذلك واقعاً ملموساً منتشراً أثره في الناس، ولكن لأن قناعتي باتت أكبر أن القوة لابد أن تنبع من داخلي قبل أي شيء.

لم يكن فعلاً أحمق أن أسجّل بين حين وآخر على ورقة صغيرة بعض الأفكار المتزاحمة، لماذا خرجنا ثورة؟ وما الذي نريده من ثورتنا؟ ما أهدافنا؟ وإلى أين نريد أن نصل؟ ولماذا لم نصل حتى الآن؟!

لم تكن تلك الأسئلة دلالة إيمانٍ تزعزع، بل قد كانت حقيقة دلالة إيمان يحتاج إلى وقودٍ دائم ليتقد ويضيء وينتشر.

كثيراً ما أذكر تلك الأسئلة الحائرة في ذهن كثيرين، تجتاحهم عند المطبات والمنعطفات والسقطات المؤلمة، تأتي جريئة أحياناً، وحائرة خجولة أحياناً أخرى، لتجعلني أبحث عن معانٍ أكبر تنبع من قضيتنا وما آمنا به وما خرجنا لأجله، ولا نملك مع كل المتاعب إلا أن نتابع الطريق.

القوة في اللحظات الصعبة والحاسمة لا تنبع إلا من الداخل، من إدراك ووعي وعقل ومنطق، يتناغمان مع عاطفة لا تتردد عن متابعة الطريق مهما أظلم.

اليوم تعيش الثورة أقسى مراحلها مقارنة بكل مرحلة قطعتها من قبل، يغدو كلام المؤمنين بها أشبه بالهذيان في حين أنه لبّ الحقيقة وروحها.

تنعقد بشكل شبه يومي اجتماعات متتالية بين ثوار جمعهم التهجير في الشمال السوري، أتوا حاملين تجاربهم وخبراتهم وتراكمات كثيرة صقلت نفوسهم ليرووها لبعضهم بعضاً، روايات لا تشبه بشكل من الأشكال أحاديث المثقفين في المقاهي، ولا قصص الأبطال في معاركهم، هي أشبه باجتماع للمحاربين القدماء، أشخاص حملوا حكمة الشيوخ على كواهلهم، وأكواماً من الذكريات والعبر، وجبالاً من الألم والخذلان والقهر!

تركيبة عجيبة لا توصلها الكلمات وحسب، بل تنطق بها العيون ونبرات الصوت والصمت الطويل أحياناً، تأكيداً لفكرة لم يقلها أحد، وهم واثقون بأن الجميع يعرفها.

الأشخاص الذين يطوفون أرجاء الشمال بلدة بلدة، وقرية قرية، يفتشون عن أشخاص آخرين لا يعرفونهم، قد سمعوا بهم يوماً ربما، قد ذكرهم أحد في حديث عابر ربما، أو لم يذكرهم!

هم واثقون بأن أحداً ما يشبههم مرّ بهذا المكان، وحطّ هناك متاعه تحت سقف بيت أو خيمة،

وأعلن بكل كرامة العالم أنه اختار هذا المصير لأنه يأبى الخضوع أو الاستسلام، ولأن حنجرته التي اعتادت الصراخ في وجه الظالم لن يوافقها الصّمت وإن اقتُلعت من مكانها، وبأن بقاءه اليوم كإنسانٍ عادي مغيّب لا يعني بأنه تنازل عن موقفه، فرحيله عن أرضه التي أحبّ كان موقفاً، ورفضه مغادرة أرض اختار النزوح إليها موقف أيضاً.

هل فقد الثائر اليوم بوصلته؟

الجواب كلا!

الثائر الحق لا يفقد بوصلته، إنه يحملها في قلبه، فتطوف به أرجاء الأرض، تخاطب ضميره بشكل مستمر، تدفعه لأن يقطع المسافات الطويلة ليجد من يلتقي معه ثورة وقضية وهدفاً، يقطعها أحياناً كثيرة ليسقي نفسه جرعة أمل، مهما كان ضئيلاً، ليجد معه إجابات تشفي حيرته مهما كانت صراحتها مؤلمة، ليجد من يجاريه دمعاً، من يشاطره البكاء بعد رحلة مليئة بالمعاناة والتعب.

هو لا ينظر إلى الكثرة التي يئست وتخلّت بقدر ما ينظر إلى إنسان يستطيع التحدث معه بصدق، إنسان يفكر معه بوضوح ليشخص المشاكل والأسباب، ولا يتحرج أبداً من طرح الحلول الممكنة، إنسان لا يتخلى عن مبادئه، ولا يكفّ منافحاً عن قضيته، يغير أساليبه وأدواته حسب الحاجة، لكنه لا يغير إنسانيته ولا يبيع ضميره، ولا يرخص كرامته، ولا يقايض على حريته مهما كلف الثمن.

المصـــدر

المزيد
من المقالات