وسط المصاعب الاعتيادية.. مناصرة القضايا السورية مسؤولية الشباب

يناير 4, 2023

صالح ملص

مقالات

“بصراحة أحيانًا تمر فترات أشعر فيها أن انتمائي للبلد هو ثقل كبير يتعبني، أفكر لو أنني خُلقت في دولة مختلفة بغير جانب من الكرة الأرضية، كم ستكون الحياة أسهل؟ أن تكون مشكلاتنا هي مشكلات أي إنسان، عقبات حياتية طبيعية من صعوبات مادية وصحية وعاطفية، نحن نعيش كل هذه العقبات بالإضافة إلى شيء كبير اسمه حرب، وثقل أكبر وهو وجود مجرمين، ومسؤولية هي ثورة، ومهما عشنا في حياتنا سنظل نحمل هذه المسؤوليات بكل خطوة وفي سن صغيرة”.

تختلط مشاعر غزل الدقر (25 عامًا) وهي تسرد لعنب بلدي إحساسها بالانتماء للقضايا التي تعيشها سوريا حاليًا، من مطالبة بالعدالة الانتقالية، والإفراج عن المعتقلين، وتحقيق المطالب التي بدأت الاحتجاجات عام 2011 بالسعي لتحقيقها، أبرزها تغيير نظام الحكم بانتقال سلمي للسلطة وتأسيس دولة مؤسسات تستند بعملها إلى القانون.

تبتعد غزل عن سوريا جغرافيًا، حيث وصلت إلى ألمانيا عام 2015 حين كانت في سن الـ19 عامًا، ولكنها لا تستطيع التوقف عن “مسؤولية مقارنة” مجتمعها الجديد بالقديم، بحسب تعبيرها، ففي كل السلوكيات التي تصادفها في حياتها الجامعية اليومية تسائل نفسها باستمرار، “لو أننا نتعامل بالطريقة كذا بمجتمعنا فهل كنا سنتفادى أخطاء لم يكن علينا اقترافها؟”.

ترافق غزل القضايا التي تعيشها سوريا على اختلاف مستوياتها كفكرة عصية على التفريط فيها، في نفس الوقت يشعرها ذلك بالإرهاق أمام مسؤولياتها الشخصية في تأمين حياة مناسبة لها داخل المدينة التي استقرت فيها، خصوصًا أنها قررت عدم العودة إلى سوريا بوجود مجرمين لم يُحاسَبوا بعد.

نزاع محشو بالكوارث

ارتبط العمل من أجل سوريا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا عمومًا بالأشخاص الذين عاشوا فيها وكانوا على احتكاك مباشر بمجتمعها، وفي السنوات الأخيرة غادر سوريا آلاف الأفراد وهم في سن صغيرة مع عائلاتهم، يكبرون ويكتسبون تجاربهم الفكرية والحسية خارج بلدهم الأم، فلم تتح لهم الظروف أن يعيشوا تلك التجارب في مناطقهم السورية الأصلية وبناء ذاكرة متينة فيها، كي تُترجم فيما بعد إلى اهتمام بشؤون البلاد العامة، فتكون أزماتها وقضاياها من ضمن أولوياتهم ونطاق تركيزهم في حياتهم اليومية.

تواجه سوريا واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية في تاريخها الحديث، حيث دُمر الاقتصاد، ورأس المال البشري والاجتماعي، وتشتتت الهوية الوطنية بالتزامن مع انتشار قوى مختلفة تسيطر بنفوذها السياسي والعسكري على مناطق النزاع مسببة بهدر الإنسانية وثقافة المجتمع، وإقناع جزء من الشباب السوري بالانخراط في العمليات العسكرية خدمة لمختلف أطراف النزاع.

بحسب صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسف)، وُلد حوالي خمسة ملايين سوري منذ 2011، بينهم حوالي مليون وُلدوا لاجئين في البلدان المجاورة.

كما شهدت سوريا عدة موجات لجوء إلى الخارج، خصوصًا إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، ووفقًا لدراسة استقصائية نشرها مركز “السياسات وبحوث العمليات” (OPC)، فإن هناك رغبة عالية في الهجرة من مدينة دمشق والاستقرار في الخارج، ما يُعتبر بمثابة تنبيه إلى أن أزمة اللجوء السوري لم تنتهِ، ومن المحتمل أن تواجه سوريا خسارة سكانية ستتركز، بحسب الدراسة، بين الفئات العمرية المنتجة والمؤهلة علميًا، ما يُشكّل خطرًا على إعادة الاستقرار الاجتماعي في سوريا.

ومن الصعب تخمين ما يحمله المستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي لسوريا، لعدم استقرار الأحداث بعد على شيء محدد، لكن على مستوى الفرد، يطرح الواقع عدة أسئلة مثل: هل تتحول القضايا السورية التي تحتاج إلى مناصرة لدى آلاف الأفراد الذين غادروا سوريا في وقت مبكر من حياتهم إلى أزمات جديدة لا يعرفونها أو لا يكون لديهم دور في تشكيل مستقبلها؟

جيل يمتلك الوعي لفهم قضاياه

لا تشعر غزل كواحدة من الذين غادروا سوريا في سن صغيرة بأنها ستتخلى أو ستتهرب مع امتداد الوقت من كونها مواطنة سورية، وهو مجرد “تعبير صريح عن إحساس أشعر به”، وفق ما وصفته، وفي هذه المرحلة من حياتها أقل شيء يمكن أن تفعله هو “متابعة الأخبار لأظل قادرة على فهم ما يحصل، لكن من حق الإنسان أن يبتعد فترة ويعود ليواكب الأحداث كاستراحة ذاتية”.

وليس لدى الصحفية والناشطة السورية في المجتمع المدني خلود حلمي أي هواجس بأن الاهتمام بالقضايا السورية وخاصة الحقوقية منها سيزول في المستقبل، وفق ما قالته في حديث إلى عنب بلدي، لأن هناك جزءًا كبيرًا من الشباب السوريين وصلوا إلى بلدان غربية وهم يحملون معهم قضاياهم ليسمع العالم أصواتهم.

“هناك أشخاص سوريون في بلدان الاتحاد الأوروبي لا يعملون بشكل أساسي في المجال السياسي، ولكن يستثمرون أعمالهم، حتى ولو كانت هذه الأعمال على نطاق ضيق، لتوعية المجتمع المضيف عبر جلسات رفع وعي حول حجم القمع في سوريا وأسباب اندلاع الثورة فيها، وأنا لديّ إيمان بهؤلاء”، وبذلك فإن زخم القضية “لن يموت”، وفق خلود.

يُمكن أن تقتصر مناصرة القضايا السورية على خلايا محددة بطابع ثقافي تعمل على جمع شملها لاستمرار ما تم البدء به في 2011، وفق ما تراه خلود، و”مدركة أن الشخص حين يكون متعبًا يحاول أن يؤسس لحياته الخاصة بالمكان الذي استقر فيه، ولكن هناك الكثير من الشباب بعد أن أخذوا نفَسًا واستقروا، بدؤوا بالعودة إلى إبراز قضيتهم والدفاع عنها بشتى الوسائل”.

ويجب على الأفراد العاملين بالمجال السياسي والحقوقي والإنساني المدني أن يستوعبوا فكرة أن عملهم هذا هو نشاط سياسي، حينها يكون باستطاعتهم تنظيم الشباب السوريين في البلدان الغربية من خلال تكتلات ليعرفوا كيفية الاستمرار في هذا النشاط، وفق ما قالته خلود.

وهذه التكتلات يمكن أن تأخذ أشكالًا بسيطة ومؤثرة بنفس الوقت، مثل التكتلات الطلابية والثقافية، وهو أمر قائم وموجود لكن على نطاق ضيق يجب توسيعه أكثر، بحسب ما أوصت به الصحفية والناشطة المدنية خلود حلمي، لتعيد إنتاج حوارات الذاكرة الجمعية حول فهم ما حدث وتمهد لأشكال جديدة من مناصرة القضايا.

ويملك سوريون في بلدان أوروبية هذا الإدراك بأهمية التجمعات المدنية، فنظم بعضهم  منظمات مجتمع مدني في مدن أوروبية، وآخرون بادروا بإطلاق فكرة تحمل طابع التجمع السوري- الأوروبي يشمل السوريين في القارة الأوروبية كلها.

والوصول إلى عدالة شاملة تلبي احتياجات ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا وأفراد أسرهم هو عملية طويلة الأمد تشمل مراحل تراكمية، وسيمر عليها أجيال مختلفة، تتطور فيها السردية التاريخية لما حصل في سوريا بشكل دقيق منعًا للتضليل الذي يسعى لسلب حقوق الضحايا والناجين.

الحفاظ على الثقافة السورية عامل أساسي

غياب نشاطات تتعلق بالثقافة السورية، وغياب الاهتمام من العائلة في بلدان اللجوء الغربية بتلك الثقافة عند تعاملهم مع أولادهم، والانفتاح بشكل كبير على خليط المجتمعات هناك، يعتبر تحديًا حقيقيًا من وجهة نظر الباحث الاجتماعي السوري محمد سلوم، لاستمرار المناصرة الخاصة بالقضايا السورية لدى الشباب السوريين.

الذين غادروا سوريا إلى بلدان غربية في السنوات الأخيرة خلال سن صغيرة ولم يختلطوا كفاية بثقافتها، سيعيشون بين ثقافة المجتمع الجديد وبين مجتمعهم السوري الخاص، وهم يعتبرون الجيل الأول من المهاجرين، وفق ما يراه سلوم في حديث إلى عنب بلدي، وهؤلاء لا خوف عليهم من عدم انتمائهم للقضايا التي تعاني منها سوريا، ولكن الذين سيولدون في تلك البلدان فمستوى انتمائهم ووعيهم للثقافة السورية وقضاياها سيكون معتمدًا على المرجعية الأولى الخاصة بهم، وهي العائلة وقدرتها على زرع هذا الانتماء في وعيهم وإدراكهم.

والذين وُلدوا في بلدان غربية من السوريين، سيعيشون ضمن مجتمع سمته الأساسية أنه خليط من جنسيات مختلفة، فالعامل المساعد للحفاظ على هويتهم السورية هو الحفاظ على اللغة بالإضافة إلى التراث الثقافي لسوريا، كي تصبح ضمن مكونات الفرد الأساسية، لأن مناصرة القضايا لا تشمل السياسة وحدها، بل تعتمد أيضًا على الثقافة والفنون.

عدم أخذ هذا الموضوع بجدية يمكن أن يؤدي بالنتيجة إلى غياب كتل ثقافية مبنية وواضحة يمكنها أن تطور أدواتها في بلاد اللجوء، وفق سلوم، ما يؤدي إلى انقطاع في التجارب السياسية والثقافية والإنسانية التي خرجت من الثورة وحتى قبلها.

“نحن جيل كلنا واعون كفاية لنفهم ونتذكر كل الجرائم التي صارت حولنا، وبنفس الوقت كنا صغارًا كفاية لنتأثر بشكل لا يسمح لنا أن ننسى أو يخف اهتمامنا أو غضبنا”، تفكر غزل وهي تقول تلك الكلمات بآلية المساعدة الحقيقية لمناصرة القضايا التي تمر بها سوريا حاليًا، لتكون شخصًا فعّالًا عن طريق توعية المجتمعات المحيطة بها بحقيقة ما يجري في سوريا.

تمتلك في نفس الوقت رغبة كبيرة وتأمل أن تتمكن من إتقان اللغة الألمانية أكثر، وأن تعي وتنضج أكثر حتى تستطع أن تبدأ بمبادرات تهدف لمساعدة سوريا وإيصال أصوات السوريين، بالإضافة إلى توعية المجتمع السوري داخل أو خارج سوريا تجاه عدة قضايا ليس لديه الوعي الكافي لأهميتها “أهمها حقوق المرأة طبعًا، لأنني أؤمن تمامًا أن تحرر المرأة من القمع الحالي هو أهم مفاتيح تحررنا كمجتمعات كاملة ودونه لن نصل إلى شيء”.

المصـــدر

المزيد
من المقالات