10 سنوات ثورة.. أحلام كبيرة لم يسعها العالم

نوفمبر 17, 2022

عبد الناصر القادري

مقالات

تعود الأيام الأولى للثورة السورية اليوم كطيف بدأ للتو، لا قبل عشر سنوات مضت، كانت سنوات غزيرة الدم، كثيفة المشاهد، صوفية وفلسفية، مفصلية وراهنة، عبثية البدايات ومجنونة، مليئة بالحقائق، وتحاول المتناقضات أن تدخل في ثنايا روحها؛ لكن يمنعها الإصرار، وتنافح عنها العزيمة، ويشدها الدافع الداخلي لتكون أقوى، وبذلك تجاوزت زمانها ومكانها.

أعود في المخيلة إلى تفاصيل 10 أعوام، فأجدها أكثر بكثير مما يمكن عده، وأوسع مما تحصره كلمات أو حتى كتب، فلكلٍ منا قصته مع الثورة وأيامها الطويلة، وهي من جعلتنا منذ لحظاتها الأولى عرايا أمام الحقيقة والخيار؛ خيار الحرية أو الموت!

كانت الثورة السورية لحظتنا الفارقة، ولدنا معها كالأطفال الذين أصبحت أعمارهم 10 سنوات اليوم، وإن اتسعت مداركنا، وبتنا ننظر للعمر بمقياس المظاهرات والمعارك، بمقياس الفرح الذي تتسلله أغنياتها وأهازيجها إلى نفوسنا، وبمقدار الألم الذي مس كل أبنائها.

بعد عقد مضى نلتفت للوراء، وننظر إلى صور من مضوا، فلا نجد إلا ذكراهم، نعدد محاسنهم، ثم نعود إلى حياتنا الأخرى التي ولدت على هامش الثورة، حيث صرنا نركض ليلاً ونهاراً لأجلها، غافلين عن حقيقة واحدة، أن قتل الثورات يبدأ في تركها بالمنتصف، ثم بدأ الابتعاد عنها رويداً رويداً لتصبح وكأنها هامشية في حياتنا الجديدة، رغم ضجيجها المستمر.

وبعد أن دمر النظام المجنون معظم البلد وأحدث شروخاً لا يمكن نسيانها، ووزع الشعب على المقابر الجماعية، والسجون والمخيمات والمنافي، يحاول جاهداً أن يعود إلى عتبة البداية وكأن شيئاً لم يكن، في ظل اقتصاد منهار، وأزمات نفسية أكلت أعمار الشعب، ولكن ما مدى إمكانية نجاحه في ذلك.

لماذا هُزمنا عسكرياً؟

هُزمت الثورة عسكرياً هذا صحيح، للكثير من العوامل التي لا يمكن إغفال بعضها دون الآخر، فقد انعدمت أي نية لتغيير النظام دولياً منذ الأيام الأولى، مع السماح لبشار الأسد باستخدام كل أنواع الأسلحة ضد الشعب بما فيها الكيماوي، واكتفاء المجتمع الدولي بالإدانات والشجب وفرض العقوبات.

وجود قوى كبرى مثل روسيا والصين وإقليمية كإيران والميليشيات الطائفية الداعمة للنظام في مقابل دعم عسكري محدود للثوار وفيتو أميركي ضد تقديم أي أسلحة نوعية، من أجل التمكن من تطويل أمد الصراع على حساب عدم الحسم لطرف دون آخر.

ظهور “داعش” والقاعدة والنصرة وقسد وقضم ما حرره الثوار والجيش الحر، وإعلان العالم الحرب على خطر الإرهاب، جعل النظام خلال الحرب الطويلة وإسناد جوي روسي تدميري يستعيد الأرض دون سيادة سياسية، فكان تقدماً عسكرياً أكثر منه نصراً سياسياً.

في المقابل، خسر الثوار السوريون الأرض التي امتدت على مساحة سوريا مبكراً، وبقيت الفصائل العسكرية المحسوبة على خط الثورة مع الأجسام السياسية السورية في الخارج تسيطر على أجزاء لا تحمل استراتيجية، فلا نحن في مناطق النفط، ولا في دمشق العاصمة، ولا في حلب الاقتصادية، وفي منطقة الجزيرة، ولا نطل على البحر، ما جعلنا محصورين في إدلب وأجزاء من ريف حلب حيث القرار والمتنفس بيد الجارة الشمالية تركيا.

نتحملُ المسؤولية في وصولنا إلى ما نحن عليه اليوم، فقد بدأت الثورة بالتآكل داخلياً منذ عدة سنوات مع عدم وجود قيادة موحدة مؤقتة وانتقالية متفق عليها، وتفكك في الأجسام العديدة، واختلاف الأجندات، وتصويب البندقية نحو بعضنا البعض باقتتال انتهى بتساقط المدن، وفساد عريض وسرقات، ونسيان الأولويات على حساب همّ الحكم والسيطرة.

وكان “بازار” المزاودات وسقف الشعارات مرتفعاً مع بدء عسكرة الثورة وسبباً يضاف إلى أسباب الهزيمة العسكرية، فلم يبقَ نوع من التكفير إلا سلكته بعض الفصائل تجاه فصائل الجيش الحر لسرقة أسلحتها ونهب مقراتها وقتل قياداتها، وها هي اليوم تخضع لشروط أكبر بكثير مما مضى، فآمنت بالديمقراطية والتعددية بعد أن كانت تتعبد بقتال وتكفير ونفي من يؤمن بها.

 ومهما حاولنا أن نستدرك الحالة العسكرية اليوم فقد فاتت الفرصة، ولم يعد بالإمكان أكثر مما كان، فمن لم يترك الاقتتال والفرقة في أكثر الأوقات إلحاحاً لذلك، لن يفعل في ظل وضعنا الحالي.

هُزمنا لكن لم ننكسر

قبل عشرات سنوات ولدنا مع الثورة وأصبح لوجودنا معنى بها، اليوم تبدو كل السبل قد انقطعت أمامنا، متروكون ومشتتون نسير وكأننا الفراغ، ولا نعرف عن الغد سوى اسمه وتاريخه، بتسارع اللحظات تجري أيامنا.

جيلنا لا هو خانع منكسر ولا هو منتصر فائز، بدأنا كلمتنا بصوت مرتفع وأسكتوها بالرصاص الحي والصواريخ والبراميل المتفجرة، وأطبقوا علينا السماء كي نموت، إلا أننا نبتنا كم ينبت الزهر من عدم الأرض، لأننا على حق.

ورغم كل ما حصل، هزمنا لكن لم نخسر المعركة كلها بعد، والأنبياء من قبل هُزموا في حروبهم، لكن بقيت فكرة إيمانهم ثابتة، وعلينا أن تبقى أفكار الثورة السورية حاضرة في نفوسنا، فهي لم تكن للحظة واحدة خاطئة، إنما العار لمن تركها دون أن يكسب منها مسيراً في مظاهرة أو هروباً من اعتقال.

والمجد لمن اعتقل واستشهد وتهجر ونزح وبذل الغالي والنفيس لأجل أن تستمر هذه الثورة في وجه طاغية وطغاة، في شرق؛ أُريد له أن يحارب العالم حتى يتحرر من جديد.

ما الحل؟

الواقعية تقول إن الحل بيد دول العالم، ولو أرادت أميركا أن تنهي أزمة السوريين لفعلت، فهي ما زالت قادرة على إزاحة الأسد من السلطة أو قتله وتعيين مجلس يحكم باسمها ويخدم مصالحها، لكن يبدو أن الفوضى الخلاقة التي فرضتها أكثر استراتيجية ونفعاً لمصالحها.

ربما لن نحقق ما حلمنا به أول أيام الثورة، من بلد كامل يحكمه شعبه، ويتداولون السلطة، ويتنافسون عبر الصناديق لتأمين حياة مستقرة للسوريين، بات هذا وكأنه مستحيلاً اليوم أو السنوات القليلة القادمة على الأقل.

الثورة تحتاج من شبابها المخلص الذي آمن بها، أن يلتقوا عبر مؤتمر وطني جامع، يضم كل التيارات والأحزاب والأطراف والفصائل، ليجلسوا ويتحاوروا حتى يخرجوا بمقترحات أكثر جدية، لا ليخرجوا بكيان جديد إنما ليتفاهموا على مستقبل هذه البلد، دستور جديد وآليات انتقالية ومفاهيم حكم، لكن هل نتمكن من ذلك؟

كان بإمكان السلاح أن يحقق الكثير على طاولة المفاوضات، خصوصاً أيام كنا نملك ثلثي الأرض، إلا أنه ضخم لمصالح الحلفاء، فانحرفت البوصلة وخدمت كل صديق وعدو إلا السوريين، وبدل أن تحمي البندقية الثورة تسببت في جراح امتدت لعشر سنوات، فيما أحلم وأتمنى أن أكتب عن الجدل داخل البرلمان السوري والانتخابات وتجاوزات الحكومة الجديدة بعد 10 سنوات أخرى، فهل يكون الحلم صغيراً ويسع العالم؟

المصـــدر

المزيد
من المقالات