رمضان الثورة الرابع.. ظهور داعش وانكفاء المد السلفي

نوفمبر 9, 2022

ورد فراتي

مقالات

سلسلة من المقالات لورد فراتي عن تمرحل الثورة (المقال الرابع)

يشكل نظام آل الأسد صورة نموذجية عن الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية، من خلال قمعه الحريات ومنعه أي حراك سياسي أو مجتمعي في البلاد بأي توجه كان، ويزيد على الأنظمة الأخرى بالحالة الطائفية البشعة التي كرسها في سوريا، من خلال فرض حكم أقليةٍ من أبناء الطائفة العلوية – وإن لم يكونوا جميعًا مستفيدين من حكمه – على أكثرية سنية تجد نفسها مغبونة ومظلومة.

لهذه الأسباب كان الحراك السياسي أو المجتمعي في سوريا من تيارات إسلامية – أو حتى قريبة منها – واحدًا من المحرمات التي لا يتسامح معها النظام، مقارنةً بالتيارات الليبرالية واليسارية والعلمانية، التي كانت مقموعةً أيضًا لكن بدرجة أقل.

ثم ومع انطلاقة الثورة السورية وخروج السوريين أفواجًا يملأون ساحات البلاد، هاتفين للحرية وإسقاط النظام ومنادين بسوريا جديدة ليست “سوريا الأسد”، بدأت التيارات المقموعة سابقًا تتحرك إعلاميًا وميدانيًا محاولةً رسم صورة الحراك وفق أفكارها وقناعاتها، حيث جاء تحركهم الإعلامي بمعظمه من خلال القنوات التليفزيونية الداعمة للثورة السورية.

ليبرز في فترة الحراك السلمي وما تلاها الشيخ عدنان العرعور، ضمن برنامجه على قناة وصال المنشأة أساسًا لمواجهة التشيع المذهبي وإيران من خلفه، الذي لم يكن يخف توجهه السلفي، وإن كان يحرص على الابتعاد عن أفكار السلفية الجهادية، ويلتزم التزامًا كليًا بعلم الثورة وجيشها الحر دون نقاش شكل الدولة القادم، حاصدًا تأييدًا واسعًا انعكس في هتافات السوريين ضمن مظاهراتهم، وفي استجابتهم الواسعة لنصائحه بطرق المواجهة السلمية مثل تقطيع الطرقات وكسر “الهويات” والضرب على “الطناجر”، حتى إن بعض أغاني الثورة الشهيرة خصصت مقاطع منها لتحيته باسمه.

المد الإسلامي الثوري

نتيجة للحراك المبكر للتيارات المختلفة نشأت واحدة من ثنائيات الثورة الأكثر حدية مع بدايات الانتفاضة في أثناء فترة سلميتها، حيث كانت التنسيقيات الثورية والمجموعات التي أنشأها الثوار على برامج التواصل الاجتماعي تغص بالنقاشات التي تتحدث عن شكل الدولة ما بعد إسقاط النظام، بين تيار إسلامي يتدرج طيفه من الإسلامي الليبرالي وحتى السلفية الجهادية، وتيار غير إسلامي يضم أيضًا طيفًا واسعًا يبدأ من المتخوفين من وجود رجال الدين في السلطة، مرورًا بالمنادين بفصل الدين عن الدولة، وانتهاءً بما يسمى يسارًا متطرفًا يرفض الدين حتى على صعيد مجتمعي.

ولأسباب عدة تمكن التيار الإسلامي – على اتساع طيفه وعدم تجانسه – من إثبات حضوره بشكل أوسع ميدانيًا، خاصة مع الانتقال للحالة المسلحة وتشكيل بواكير مجموعات الثوار، التي كانت غالبًا تستحضر تراثًا إسلاميًا في مسمياتها ومفردات بياناتها، بصورة كانت تبدو منطقية مع انتشار هذه المجموعات في أوساط أبناء الأكثرية السنية، وارتباط القتال رفعًا للظلم بمفهوم الجهاد لدى المسلمين.

ثم ومع تحول الثوار من العمليات الأمنية المحدودة ضد رموز القمع و”التشبيح”، إلى معارك تحرير كبرى في رمضان الثورة الثاني، وإفراغ النظام سجونه من منسوبي التيارات الإسلامية – خاصة السلفية منها – الذين خرجوا ليؤسسوا جماعات مسلحة، وتزايد الدعم الأهلي “الأجنبي” – خاصة من دول الخليج العربي – للثورة السورية وعملها المسلح، الذي كان يجمع غالبًا عن طريق مشايخ يوصلون الأموال لمعارفهم في الداخل السوري، الذين كانوا غالبًا من أبناء التيار الإسلامي، إضافة إلى دخول أعداد كبيرة من المهاجرين القادمين من شتى أصقاع الأرض للجهاد في سوريا، وانخراطهم بفاعلية في الحراك المسلح، أصبح الطابع السلفي يظهر بشكل أوسع على المجموعات الثورية اعتبارًا من بدايات عام 2013، حيث باتت الصورة الغالبة على المشهد الثوري المسلح هي انقسامه ليس إلى إسلامي وعلماني، بل إلى سلفي – سلفي حركي/سلفي جهادي – وإسلامي عادي! أو ما يطلق عليه إسلامي شامي أو وسطي.

ومع التمويل الأكبر والدعاية الإعلامية الأوسع للتيار السلفي التي تولت مهمتها بعض القنوات الإعلامية الداعمة للثورة السورية، وانكفاء المشيخة التقليدية السورية عن حراك الثورة المسلح إلا نادرًا، تحولت المجموعات السلفية إلى ألوية كبرى، سيطرت على المشهد السوري، مثل (جبهة النصرة – حركة أحرار الشام الإسلامية – لواء الإسلام – جبهة الأصالة والتنمية – ألوية صقور الإسلام) التي كانت بدورها مقسومةً حسب مدارسها الفكرية وصراعاتها السابقة على الثورة السورية، ملقيةً بصراعاتها تلك على الثورة التي أثقلوها بموروث صراعات تياراتهم لعقود سابقة.

جبهة النصرة

أعلنت “جبهة النصرة” وجودها في سوريا مطلع عام 2012، متبنيةً منهج السلفية الجهادية في خطاباتها وبياناتها، مع عدم إعلان ارتباطها بتنظيم القاعدة رغم شيوع الارتباط إعلاميًا وشعبيًا، حيث تحركت بإستراتيجية واضحة منذ البداية ركزت فيها على التمايز عن مجموعات وفصائل الثورة السورية، وذلك من خلال انتشارها في مختلف المساحة الجغرافية السورية وليس في منطقة محددة كجل الفصائل، وتنفيذها عمليات نوعية ضد أهداف ثمينة لنظام الأسد، فضلًا عن تركيزها منذ البداية على بناء كتلتها بشكل متجانس، من خلال قبولها انضمام الأفراد فقط، وإخضاع منتسبيها كافة لمعسكرات يغلب عليها الطابع الشرعي.

ورغم وضع الولايات المتحدة للجبهة على قائمة الإرهاب أواخر عام 2012، فإنها تمكنت من التحول تدريجيًا من مجموعات صغيرة متفرقة عند بدئها نشاطها في سوريا، إلى قوة ضاربة بدايات عام 2013 لها الكلمة الفصل في بعض المناطق المحررة، وفي بعضها الآخر قوة لا يمكن تجاوزها في أي قرار.

وهو ما خلق حساسيةً بين النصرة من جهة والتيارات الإسلامية الأخرى فضلًا عن فصائل الجيش السوري الحر من جهة أخرى، التي تعزز لديها جميعًا سعي النصرة لإضعافها وإظهارها دائمًا بالمظهر المتفلت مقارنة بها، لكن هذه الخلافات بقيت أمرًا يمكن تجاوزه في ظل انشغال الجميع بمعارك التحرير، حتى أعلن البغدادي في تسجيل صوتي في أبريل/نيسان عام 2013 أن جبهة النصرة فرع من تنظيم “دولة العراق الإسلامية” التي يرأسها، وأنها الآن تعود إليها مشكلة معها “الدولة الإسلامية في العراق والشام” التي عرفت اختصارًا بـ”داعش”.

ليظهر الجولاني بعد يوم واحد من التسجيل معلنًا عدم معرفته بالتسجيل السابق وأن النصرة تتبع مباشرة لتنظيم القاعدة وأميره الظواهري، لتدخل المناطق المحررة معركةً داخلية بين من استجابوا لتسجيل البغدادي ومن بقوا مع الجولاني، وتميل الكفة بشكل واضح في الشمال السوري لأتباع داعش حتى لم يبق للنصرة قوة تعتبر فيه، بينما حافظ عناصر النصرة في دير الزور على تبعيتهم للجولاني بفضل جهود الشرعي العام لها أبو مارية القحطاني الموجود في الشرق، فيما تباينت السيطرة بين التنظيمين في المناطق المحررة الأخرى، لكن بصورة أقل حدية، حتى استقرت الأمور بوجود التنظيمين كليهما في المناطق المحررة أواسط عام 2013.

تنظيم داعش

منذ بداية تأسيسه كان واضحًا أن تنظيم داعش يختلف كليًا في إستراتيجيته عن جبهة النصرة، حيث سعى بشكل كبير لضم أكبر عدد من المجموعات والكتائب إلى صفوفه، إضافة إلى نشاطه الكبير على المستويات كافة دعويًا وميدانيًا وعسكريًا، فضلًا عن حملاته الإعلامية التي اتهم فيها باقي الفصائل – بما فيها جبهة النصرة – بإرجاء “تطبيق الشريعة”، واتباعها “مناهج كفرية”.

ليبدأ التنظيم بالتزامن مع تلك الحملات الإعلامية حملاتٍ عسكرية في الشمال السوري بشكل خاص استهدف فيها بدايةً المجموعات المسيئة من الجيش الحر، التي كان المدنيون في المناطق المحررة يتشكون منها مثل مجموعة “الفاروق في منبج” بقيادة البرنس، وهو ما أكسب التنظيم تأييدًا واسعًا بين صفوف المدنيين، لتتوسع حملات التنظيم تلك شاملةً فصائل أخرى من الجيش الحر ومجموعات تتبع للتشكيلات الإسلامية الكبرى مثل أحرار الشام، دافعةً المدنيين والناشطين والفصائل على حد سواء للارتياب في أهدافه، ليشهد النصف الثاني من عام 2013 اندماج كبرى الفصائل الإسلامية وذات التوجه الإسلامي في سوريا ضمن “الجبهة الإسلامية”، في محاولة لتشكيل كتلة وازنة تلجم التنظيم عن التحرك لاجتثاثها.

تطهير الشمال السوري

يمكن القول إن فصائل الجيش السوري الحر رغم كونها الأساس الذي انطلق به العمل المسلح في سوريا، عاشت حالة انكفاء لحساب الفصائل الإسلامية منذ النصف الأول من عام 2013، ليستمر هذا الانكفاء عن المشهد الثوري الفاعل طوال عام 2013، وهو ما دفع عددًا من هذه التشكيلات في الشمال السوري لبدء اجتماعات تنسيقيةٍ فيما بينها أواخر عام 2013 سعيًا لتأسيس كيان يمثل الجيش الحر ويعيده إلى الواجهة، ومن أبرز تلك الفصائل (لواء الأنصار – تجمع فاستقم كما أمرت – لواء أمجاد الإسلام – كتائب نور الدين الزنكي) التي تركز ثقلها الأساسي في ريف حلب الغربي ومدينة حلب، وذلك بالتزامن مع ازدياد شراسة حملات التنظيم للسيطرة على المناطق المحررة، وفي إحدى هذه المواجهات اعتقل تنظيم داعش الدكتور أبو ريان، المكلف بإدارة معبر تل أبيض شمالي الرقة، ليسلموه جثة هامدة في آخر أيام عام 2013، وهو ما حول ريف حلب الشرقي لساحة مواجهة بين التنظيم والحركة.

ثم وفي أول أيام عام 2014 تحرك التنظيم للسيطرة على “الفوج 46” ذي الموقع الإستراتيجي في ريف حلب الغربي، دافعًا الفصائل التي كانت تنسق فيما بينها سابقًا للإسراع بإعلان اندماجها مشكلين “جيش المجاهدين” الذي بدأ حملة اجتثاث ضد التنظيم في مدينة حلب وريفها الغربي، متمكنًا من تطهير المنطقتين منه وملاحقًا فلوله إلى ريف حلب الشمالي، الذي انضمت فيه تشكيلات الجيش الحر والجبهة الإسلامية إلى المواجهة بشكل متواضع، وذلك في الوقت الذي تمكن فيه التنظيم من حسم المواجهات في ريف حلب الشرقي والرقة لحسابه، مسيطرًا على المنطقة بشكل كلي بعد انسحاب الفصائل الإسلامية وتشكيلات الجيش الحر منها، حيث شهدت مدينة الباب آخر المواجهات الكبرى في المنطقة التي تمكن فيها التنظيم من السيطرة عليها في 13 يناير/كانون الثاني عام 2014، بعد قدوم أرتال تتبع له من ريف الحسكة المحرر شرق سوريا.

كما تحركت في إدلب الفصائل الثورية وعلى رأسها “جبهة ثوار سوريا” لتطهير المنطقة من التنظيم، متمكنين من طرده منها على مراحل، ليختار التنظيم تثبيت ريف حلب الشمالي كخط جبهة بينه وبين الفصائل الثورية والإسلامية شمال سوريا، والتوجه شرقًا للسيطرة على محافظة دير الزور التي طرد ثوارها مجموعاته منها بالتزامن مع مواجهات شمال سوريا.

“الخلافة”

بدأ التنظيم معركته لاحتلال دير الزور من بلدة مركدة التابعة لمحافظة الحسكة شمالي دير الزور في فبراير/شباط 2014، حيث احتشدت ضد التنظيم معظم التشكيلات الثورية في دير الزور إضافة إلى جبهة النصرة، ورغم أن الكفة مالت في بداية المواجهات لحساب الفصائل الثورية، فإن تمكن التنظيم من السيطرة على الموصل في العراق في يونيو/حزيران 2014، واستقدامه تعزيزات كبيرة من هناك باتجاه دير الزور ضمت أسلحة نوعية غنمتها فيها، ساهم في تمكن التنظيم من التقدم على حساب الفصائل الثورية، حتى قررت تشكيلات المحافظة الانسحاب منها بداية رمضان عام 2014 باتجاه منطقة القلمون ومحافظة درعا جنوب البلاد، ليتمكن التنظيم من بسط نفوذه على كامل الشرق السوري وأجزاء واسعة من شماله، إضافة إلى مناطق واسعة شرقي العراق وشماله، حيث أعلن التنظيم في شهر رمضان قيام ما دعاه “الخلافة الإسلامية” في أول ظهور علني لقائد التنظيم أبو بكر البغدادي.

دخل السوريون رمضانهم عام 2014 بعد أن تغيرت خريطة الصراع في سوريا بشكل جذري، مع دخول طرف جديد فيه، حيث ساهم هذا التحول ليس فقط في تغيير شكل الجبهات في سوريا، بل وفي انكفاء المد السلفي في الثورة السورية، حيث دخلت كبرى الفصائل الإسلامية مراجعات فكرية ساهمت في تغير مفردات خطابها، فيما استعاد الجيش السوري الحر مكانته كفاعل أساسي في المشهد السوري، وظهر ذلك جليًا في الإعلان عن “ميثاق الشرف الثوري” الذي وقعت عليه معظم التشكيلات الثورية في سوريا، حيث تلا البيان الشيخ الشهيد حسان عبود قائد حركة أحرار الشام الإسلامية، فيما جلس قربه المقدم محمد بكور قائد جيش المجاهدين من مرتبات الجيش السوري الحر.

المصـــدر

المزيد
من المقالات