أنهى السوريون رمضان ثورتهم الثامن أواسط يونيو/حزيران 2018، وقد تمكن التحالف الذي يقوده جيش الاحتلال الروسي، ويضم ميليشيات إيران الطائفية متعددة الجنسيات، إضافة إلى جيش نظام آل الأسد، من السيطرة على معظم مساحة البلاد من شمالها في مدينة حلب وأجزاء من أريافها الجنوبية والشرقية والشمالية، مرورًا بوسط سوريا والعاصمة دمشق مع محيطها، فضلًا عن الشريط الساحلي الذي حافظ النظام عليه تحت سيطرته طوال سنين الثورة، إضافة إلى معظم مساحة البادية السورية والضفة اليمنى لنهر الفرات في محافظة دير الزور التي تضم مدنها الرئيسية.
لينحصر الثوار في منطقتين رئيسيتين هما: منطقة شمال غرب البلاد التي تضم (محافظة إدلب وأجزاء من أرياف حلب، إضافة إلى ريف حماة الشمالي، وجزء من ريف اللاذقية على الحدود السورية التركية)، أما الثانية فمنطقة درعا في أقصى الجنوب السوري، التي كانت تعيش حالة من التوتر مع تحضيرات روسيا لبدء حملة احتلال الجنوب السوري.
سقوط درعا
طالما كان للحراك الثوري في درعا خصوصية تميزه عن الحراك الثوري على امتداد الأرض السورية، بسبب موقعها المميز جنوب العاصمة السورية دمشق، وعلى حدود الأردن وقريبًا جدًا من فلسطين التي يحتلها الكيان الصهيوني مع الجولان السوري الملاصق لدرعا، وهو ما جعل طبيعة التدخل الخارجي في الجنوب السوري مختلفًا عن ذلك في الشمال، وهو ما برز جليًا من خلال تشكيل “دول أصدقاء سوريا” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية غرف تنسيق الدعم للمعارضة المسلحة في تركيا والأردن.
حيث تشكلت غرفة “Military Operations Command” المعروفة اختصارًا بـ”MOC” في الأردن، و”Müşterek Operasyon Merkezi” المعروفة بـ”MOM” في تركيا، أواسط عام 2012 بشكل أولي، إلى أن بدأت العمل بشكل رسمي عام 2013، وضمت الغرفتان ما يقارب 100 فصيل عسكري شمال وجنوب سوريا، موفرةً دعمًا عسكريًا ولوجستيًا للفصائل وصل ذروته بتقديمها مضاد الدروع الأمريكي “تاو” والراجمات البعيدة “بي 21”.
وبسبب مكان وجود الغرفتين تمايز دورهما في دعم الفصائل المسلحة مع اختلاف وجهتي النظر التركية والأردنية، حيث كان لكل منهما مصالح انعكست جلية في عمل كل من الغرفتين.
ففي الوقت الذي بقي فيه الشمال يعيش حالة تفكك في الكيانات العسكرية التي فشلت على مدار أعوام من تشكيل جسم عسكري موحد، تمكن ثوار درعا من تشكيل “الجبهة الجنوبية” في فبراير/شباط عام 2014 كمظلة عسكرية موحدة لمعظم فصائلها، باستثناء بعض الفصائل ذات النهج السلفي الجهادي، التي كان دورها في درعا أقل فاعلية كثيرًا من دورها في الشمال، حيث بقيت اليد العليا في درعا لفصائل وتشكيلات الجيش الحر تحت مظلة الجبهة الجنوبية، التي شكلت غرفة عمليات مشتركة لاحقًا تمكنت من تحرير مساحة واسعة من المحافظة بما فيها الحدود مع الأردن، عبر سلسلة من المعارك والعمليات العسكرية أهمها: (معركة تحرير بصرى الشام – معركة عاصفة الجنوب – تحرير تل الحارة – تحرير جمرك نصيب)، محتفظة غالبًا بالمبادرة العسكرية في الجنوب السوري.
لم يقتصر تميز الحالة الثورية في درعا على العمل العسكري، بل شهدت المحافظة ربما الحالة الوحيدة خلال الثورة السورية لتشكيل كيان قضائي مشترك تخضع له الفصائل، ويكون الفاعل الأساسي فيه تشكيلات الجيش السوري الحر، من خلال تأسيس “دار العدل في حوران” في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، حيث نجحت الدار في فرض نفسها ككيان قضائي مركزي يتمتع بسلطة حقيقية.
لكن أبرز ما تميزت به ثورة حوران كان احتفاظ المنطقة بهويتها المحلية التي انعكست جليًا على جميع مستويات الثورة فيها، وربما يكون كم الأغاني الثورية باللهجة الحورانية التي ركزت على اسم “سوريا” و”الجيش الحر” في كلماتها، – وكانت الفصائل تستخدمها في إصداراتها العسكرية – أبرز ما يوضح هذه الهوية، في وقت كانت فيه جل فصائل سوريا الأخرى تعتمد على إصدارات بطابع وأناشيد سلفية غالبًا كان ذكر الوطن فيها “نادرًا”! حيث أنتجت ثورة حوران – مع ثورة ديرالزور – على مدار سنين الثورة الكم الأكبر من الأغاني الثورية ذات الطابع المحلي الوطني.
بعد دخول جيش الاحتلال الروسي إلى المواجهة في سوريا، وتمكنه من فرض واقع عسكري وسياسي جديد، من خلال الحملات العسكرية الوحشية التي تمكن فيها من احتلال كل المناطق المحررة في محيط العاصمة دمشق ووسط سوريا، ومع انتهاء رمضان الثورة الثامن قاد الروس حملة عسكرية لاحتلال حوران انطلقت أواسط يونيو/حزيران عام 2018، واجهتها بشراسة فصائل الجيش الحر في المنطقة، وسط حالة تهجير واسعة لقاطني المنطقة وصلت إلى ما يقارب ثلث مليون مدني لجأوا إلى المناطق الحدودية.
ثم جاء الموقف الأمريكي مخيبًا للآمال بما يشبه تخليًا عن المنطقة لحساب الروس، وهو ما خلخل صفوف المقاومة المسلحة للحملة الروسية، فبدأت مناطق درعا تدخل هدنًا واتفاقيات منفردة مع الروس، وتوالت الانسحابات أمام الحملة الشرسة حتى تمكنت روسيا من السيطرة على معبر نصيب مع الأردن نهاية الأسبوع الأول من يوليو/تموز، ثم من السيطرة على كامل المحافظة عبر اتفاقات تسوية كانت الأولى من نوعها في سوريا أواسط الشهر.
فقد تمكنت روسيا من إقناع معظم الكتلة العسكرية للفصائل بالبقاء في المحافظة تحت مسميات مختلفة تنسق مع الجانب الروسي أو تتبع له، إضافة إلى دخول المؤسسات التابعة للنظام إلى بعض مدن وبلدات المحافظة، فيما اختار قلة من المقاتلين وعوائلهم الخروج ضمن قوافل التهجير إلى الشمال، لتنتهي بذلك سيطرة “المعارضة المسلحة” – كما يحلو لوسائل الإعلام تسمية فصائل الثوار – على آخر معاقل الثورة في الجنوب السوري، وتصبح خريطة الجنوب حمراء اللون إلا من منطقة صغيرة في محيط نقطة تلاقي الحدود السورية الأردنية العراقية في التنف.
معارك البادية
بعد سيطرة تنظيم داعش على محافظة دير الزور وخروج فصائلها باتجاه الجنوب السوري إلى منطقة القلمون بشكل أساسي أواسط عام 2014، تجمعت الفصائل التي خرجت من الشرق مشكلة “جيش أسود الشرقية” في أغسطس/آب من العام نفسه، الذي قاد فور وصوله برفقة فصائل المنطقة حملة ضد المجموعات التي أعلنت بيعتها لتنظيم داعش في المنطقة.
استمرت حملات جيش أسود الشرقية وعدد من فصائل المنطقة أبرزها “قوات أحمد العبدو” تقاتل على جبهات متفرقة في المنطقة حتى أواخر عام 2016 عندما أطلقت معركة “رد الاعتبار” التي شملت مناطق عدة من البادية السورية في مناطق القلمون الشرقي وريفي درعا والسويداء، بهدف تقليص نفوذ تنظيم داعش في البادية، ثم جاءت معركة “سرجنا الجياد لتطهير الحماد” في مارس/آذار عام 2017 التي توسعت فيها رقعة المواجهة مع التنظيم وصولًا إلى المحسا وتل مكحول التابعة لمحافظة حمص، محققة انتصارات مهمة على التنظيم فيها، إضافة إلى إخراج ريف السويداء الشرقي عن سيطرة التنظيم بشكل كامل، حيث ركزت غرفة عمليات المعركة جهودها على قتال تنظيم داعش متجنبة المواجهات مع قوات نظام آل الأسد، رغم أن المناطق التي باتت تسيطر عليها أصبحت تهدد بكسر الحصار الذي يفرضه النظام على القلمون الشرقي ومن خلفه الغوطة الشرقية.
تمكنت غرفة العمليات في فترة قياسية من السيطرة على مساحة واسعة من البادية السورية في منطقة الحماد والقلمون الشرقي، وهي منطقة تأتي أهميتها من كونها عقدة وصل بين شرق سوريا ومحافظات وسط وجنوب سوريا التي كانت آنذاك ما زالت تضم مناطق محررة، مما يهدد بوصل هذه المناطق مع بعضها، فضلًا عن فتحها الطريق باتجاه دير الزور.
الانسحاب الأمريكي لحساب الروس في الجنوب
أسس التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مركز تدريب عسكري في قاعدة التنف العسكرية قريبًا من نقطة تلاقي الحدود السورية الأردنية العراقية بدايات عام 2016، ويعتبر “جيش سوريا الجديد” المشكل في أكتوبر/تشرين الأول عام 2015 من عدد من فصائل دير الزور، بدعم من التحالف الدولي وبهدف قتال تنظيم داعش أبرز المستفيدين من هذا المركز، حيث تمكن الجيش من السيطرة على معبر التنف بدعم من طيران التحالف في مارس/آذار عام 2016، ليتخذه مقرًا أساسيًا له ذا موقع إستراتيجي قريب من مدن محافظة ديرالزور الواقعة على الضفة اليمنى لنهر الفرات التي يحتلها تنظيم داعش.
ليحاول الفصيل بعدها بأشهر التحرك باتجاه المحافظة في يونيو/حزيران مسيطرًا على مطار الحمدان قرب مدينة البوكمال على الحدود السورية العراقية في أقصى شرق سوريا، ورغم أن محاولته تلك لم يكتب لها النجاح بسبب قلة أعداد الفصيل وتوغله في البادية كثيرًا، فإنها أثبتت أن تمركز الفصيل في المنطقة يشكل نقطة انطلاقة جيدة لتحرير المحافظة، خاصة بعد معارك سرجنا الجياد التي تمكنت فيها الفصائل – بدعم أمريكي أيضًا – من السيطرة على مساحة واسعة في البادية في القلمون الشرقي والحماد وصولًا إلى التنف على طول الحدود السورية الأردنية.
تنبهت روسيا إلى توسع رقعة سيطرة فصائل الجيش الحر في البادية السورية، بالتوازي مع تحضيرات قوات قسد شمال سوريا، بما يشبه فكي كماشة يدعمهما التحالف الدولي بقيادة أمريكا شمال وجنوب محافظة دير الزور للسيطرة عليها من تنظيم داعش، فبدأت في مايو/أيار عام 2017 هجومًا على قوات الجيش الحر مسيطرة على مثلث البادية الذي يعتبر عقدة الوصل بين بغداد والأردن ودمشق في البادية السورية، لتبدأ بعده الزحف باتجاه معبر التنف وسط معارك ضارية مع فصائل جيش أسود الشرقية وقوات أحمد العبدو، لتوقف الولايات المتحدة الأمريكية دعمها للفصائل في البادية بسبب ما اعتبرته أنشطة لا تستهدف محاربة تنظيم داعش، ليخرج الفصيلان ببيان مشترك قالا فيه: “إن ضغوطًا شديدة مورست عليهما لوقف قتال النظام وتسليمه المنطقة في البادية الشامية”، في إشارة إلى غرفة تنسيق الدعم MOC في الأردن، لتكون تلك بداية التخلي الأمريكي عن فصائل الجيش الحر في الجنوب السوري لحساب روسيا فيما بدا اتفاقًا غير معلن بين الطرفين، تكرر مرة أخرى أواسط عام 2018 في أثناء الحملة الروسية للسيطرة على درعا.
تابعت روسيا معاركها في البادية السورية مجبرة فصائل الجيش الحر فيها على الانكفاء على نفسها في القلمون، ومتحركة باتجاه دير الزور التي تمكنت من السيطرة على أجزائها الواقعة على الضفة اليمنى لنهر الفرات أواخر عام 2017، بالتزامن مع سيطرة قوات قسد بدعم التحالف الدولي على الضفة اليسرى للنهر، لتتفرغ لاحقًا لمنطقة القلمون التي نفذت فيها اتفاق تهجير لفصائل الجيش الحر في أبريل/نيسان عام 2018، قبل أن تتحرك باتجاه السيطرة على محافظة درعا بشكل كامل في يوليو/تموز من العام نفسه، ليقتصر وجود “الجيش الحر” على منطقة التنف التي تمركز فيها “جيش مغاوير الثورة” (جيش سوريا الجديد سابقًا)، الذي أبقى التحالف الدولي على دعمه له وعلى حمايته للمنطقة ضد هجمات ميليشيات إيران حتى اليوم، لتبقى نقطة ارتكاز لأمريكا في الجنوب السوري.
دخل السوريون رمضان ثورتهم التاسع – رمضان الماضي – بعد أن انحصر وجود الثوار الشمال والشمال الغربي السوري، الذي بات قبلة السوريين المهجرين من غالبية محافظات سوريا، حيث تولت تركيا الإشراف على المنطقة سواء من خلال وجودها المباشر في ريفي حلب الشمالي والشرقي (منطقة عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون)، أم بشكل غير مباشر في محافظة إدلب ومحيطها التي وقّعت فيها تركيا اتفاق سوتشي في أغسطس/آب عام 2018 مع الإيرانيين والروس، بحيث انتشرت نقاط مراقبة مشتركة للدول الثلاثة في محيطها لإيقاف العمليات العسكرية فيها وتحويلها إلى منطقة آمنة للمدنيين على غرار تلك في ريفي حلب الشمالي والشرقي، إلا أن الروس لم يلبثوا أن خرقوا الاتفاقية في مارس/آذار عام 2019 في حملة عسكرية شرسة ستستمر حتى بدايات العام الحاليّ، لترسم شكلًا جديدًا للمنطقة يعيشه السوريون واقعًا اليوم.