حالة استمراء الهزيمة والركون إلى الإحباط وجميع أشكال الانكسار النفسي والمعنوي، هي حالة ربما عرفتها كثير من الثورات التي مُنيت بضربات موجعة أثناء دخولها في طور أو أطوار من تاريخ انتفاضتها أو ثورتها في سبيل تحررها، ثم لا تلبث هذه الحالة أن تزول حين تأتي أحداث مفصلية نوعية من شأنها أن تغيّر موازين القوى، فتستعيد الجماهير ثقتها التدريجية بقدراتها، وربما تقدّم الثورة السورية مثالاً غنياً بالدلالات والوقائع على أثر العوامل النفسية في التحكم بسيرورة الثورة، إذ لقد عاش السوريون طوال نصف قرن، ومعظمهم مسكون بإرث كبير من الخوف الذي عزّزته السلطة الأسدية في نفوس الناس في مطلع الثمانينيات، إلى أن جاءت موجة ثورات الربيع العربي، وانبثق من عمق المجتمع السوري جيل شبابي جديد ربما كان أكثر تحرراً من ثقافة الخوف التي صادرت إرادة السوريين طوال عقود من الزمن، فاستطاع هذا الجيل الجديد بسلاسة أن يكسر هيبة القبضة الأمنية للسلطة، وبذلك حرّر السوريين من الخنوع والخوف.
ربما باتت هذه الحالة جزءًا من الماضي نظراً للمسارات المعقدة للثورة التي أحالت الجغرافيا السورية إلى ميدان شديد التشابك من الصراعات الإقليمية والدولية، إذ ربما ساهم هذا التعقيد وما يوازيه من انسداد في المسارات السياسية، فضلاً عن وجود أكثر من سلطة أمر واقع تتقاسم النفوذ على الأرض السورية، أقول: ربما ساهم هذا كلّه في إعادة المجتمع السوري إلى حالة (صفرية) من اليأس والإحباط، تعيد إلى الأذهان لأول وهلة الحالة النفسية للسوريين ذاتها قبل عام 2011، ولكن ثمة – في الحالة السورية – ما هو لافت للانتباه، بل ما يوجب الوقوف عنده، وهي ظاهرة تعاقب (السكون والانبعاث الشعبي) في موازاة ابتعاد النخب والأطر السياسية الرسمية وغير الرسمية عن المشهد، بل غالباً ما كان دور تلك النخب سلبياً في حياديته المُفتَعلة، استعلائياً في خطابه الذي يضمر كثيراً من الانتهازية، وفي غالب الأحيان مارس الدور (النخبوي) كثيراً من التضليل من خلال اتهامه المتكرر لرأي الجمهور العام بـ(الشعبوية) ومن خلال اعتقاده بأنه يحوز وعياً متقدماً على الرأي العام الشعبي، في حين كشفت الوقائع المتكررة أن الموجة النخبوية لا تمتلك سوى العجز الذي تحاول إخفاءه بتعاليها وفوقيتها المعهودة، وربما بلغت ذروة عجزها حين حاولت على الدوام تعزيز القناعة لدى الرأي العام بأن القضية السورية خرجت من يد السوريين ولم يعد لهم أي دور في التأثير بمفاصل قضيتهم، بل لا جدوى من أي عمل مباشر سواء كان سياسياً أو ميدانياً يطول الواقعَ الراهن، بل أقصى ما يمكن فعله هو الدخول في حوارات ثقافوية ماراتونية حول مسائل ذات صلة بسوريا (المُتخيّلة) التي يمكن أن تتحوّل إلى حيّز الممكن حين تبلغ الشفقة منتهاها لدى المجتمع الدولي، ومن ثم يتصدّق على السوريين بحل سياسي، أما التفكير والعمل من أجل سوريا ذات الجراح النازفة فهو ضرب من الممارسة الشعبوية وفقاً لهذا التيار.
إلّا أن هذا الدور الخاذل لقطاع النخب السورية كان يفضحه الرأي الشعبي العام على الدوام، ولا حرج من الوقوف عند بعض الأمثلة والوقائع التي تُظهر مدى التناقض الذي ربما يصل بعض الأحيان إلى حالة من التضاد بين الجمهور العام للثورة، ونخبه السياسية والثقافية:
1 – ربما وجدت القوى التقليدية (السياسية والثقافية) لنفسها العذر في عدم قدرتها على التأثير في سيرورة الحراك الثوري إبان انطلاقة الثورة في آذار 2011، وذلك بحكم حالة الموات السياسي الذي فرضته السلطات الأسدية على الشعب السوري، إلّا أن التشكيلات السياسية التي أتت لاحقاً، والتي تصدّر قسم منها مشهد القيادة، لم تخرج من حالة الموات أو الشلل الذي جعلها فاقدة لأي تأثير في المشهد السياسي من جهة، وكذلك لم يحل دون تبعيتها المبكرة وارتهانها السلس للخارج، فانتهى دورها الثوري المزعوم إلى دور وظيفي لا يخدم إلا مصالح القائمين عليه.
2 – خلال شهر آب الماضي شهدت مناطق الشمال السوري مظاهرات واحتجاجات عارمة، أعادت للسوريين المشاهد الأولى للثورة إبان انطلاقتها، وذلك تعبيراً عن رفض سكان تلك المدن والبلدات لأي مسعى تصالحي مع نظام الأسد، ليقين هؤلاء الناس أن المواجهة بين السوريين والأسد باتت ضرباً من الصراع الوجودي الذي لا يحتمل المصالحة، وهذا اليقين لم ينبثق عن ردّة فعل طارئة لدى الجمهور العام بقدر ما يجسّد وعياً متقدماً بطبيعة الصراع بين الأسد والشعب السوري من جهة، وكذلك بمعرفة حقيقية وصادقة بماهية نظام دمشق الإجرامية والعصية على الإصلاح من جهة أخرى، ولكن هذا الموقف الشعبي الثوري المتجدد قوبل بتجاهل شبه تام من مجمل القوى السياسية السورية، باستثناء بعض المواقف الشخصية التي دعت لأن يكون هذا الحراك انطلاقة ثانية للثورة السورية، في حين كان من المفترض أن يكون هذا الحراك نقطة تحوّل في الوعي الراكد للنخب السياسة والثقافية.
3 – يعزو كثيرون ما يجري من معارك راهنة في الشمال السوري إلى أنها حربٌ فصائلية بين مشروعين يريد كلٌّ منهما ابتلاع الآخر، مشروع هيئة تحرير الشام ذات المرجعية القاعدية، ومشروع الفيلق الثالث ذي الميول الإخوانية، أمّا تحالفات أو انحياز الفصائل الأخرى لهذا الطرف أو ذاك، فإنما تنطلق من معايير المصلحة الآنية المتعلقة بزيادة النفوذ ومساحة المكاسب، ومهما كانت الأسباب الحقيقية وراء هذا الاقتتال، فإن ثمة ما يُجمع عليه الكثير، وهو أن هذا الاقتتال لا ينبعث عن أسباب ذات صلة بالمصلحة العامة للشعب، بل ربما ذهب كثيرون إلى أن ما يجري من اقتتال هو وليد نسق من الأحداث والأهداف لا علاقة له بالمطلق بمسار القضية السورية.
وأيّاً كان الشأن، وبعيداً عن تفاصيل هذا الصراع الفصائلي، فإن ما يمكن الوقوف عنده مرة أخرى، هو الموقف الشعبي، إذ منذ أن بدأت قوات الجولاني بالزحف نحو مناطق الريف الشمالي لحلب، اندلعت المظاهرات والاحتجاجات في كل مدن وبلدات وقرى اعزاز وجرابلس والباب ومارع، وذلك تعبيراً عن رفضهم لقدوم هيئة تحرير الشام لاحتلال مناطقهم وبلداتهم، ولكن الإشكالية الحقيقية هي في نظرة كثير ممن اختزل هذا الحراك الشعبي العام بكونه انحيازاً للفيلق الثالث فحسب، أي إفراغ الحراك من محتواه الثوري وحصره في الحيّز الفصائلي، وربما يتيح هذا التفسير لأصحابه النخبويين فرصة التنصّل من أي مسؤولية والاستمرار في إدارة الظهر لأي منجز لا دور لهم فيه، ولكن الوقائع تؤكّد أن الجماهير التي انتفضت في وجه الجولاني هي ذاتها من انتفضت مرات ومرات في وجه الفيلق الثالث وكل الفصائل الأخرى، رافضةً فسادها وتسلّطها وتجاوزاتها وتقاعسها وتفريطها، وما انتفاضها في وجه هيئة تحرير الشام “القاعديّة” إلّا إصرارٌ منها على الدفاع عن آخر معاقل الثورة، وكذلك إصرار منها على ألا تسمح للتنظيمات الإرهابية أن تفترسها كما سمحت الفصائل التي تحالفت مع الجولاني بذلك، ولعل هذا التميّز للموقف الشعبي عن مواقف الفصائل هو الكابح الحقيقي لأية مشاريع معادية لمصالح السوريين، حتى لو كانت وراءه أطراف خارجية أخرى.
ما من شك في أنْ لا أحد يمكن أن يراهن على نتائج حاسمة ومباشرة للحراك الشعبي في مدن وبلدات الشمال السوري في حال ظلّ وحيداً في مجابهة قوى التسلّط والتوحّش، سوى في تكريسه للجانب الأخلاقي من قيم الثورة، ولكن استمرار الموقف النخبوي في مجافاته وتجاهله للموقف الشعبي، ألا يسهم في الإجهاز التدريجي حتى على الجانب الأخلاقي لثورة السوريين أيضاً؟.