شهد النصف الأول من عام 2012 تصاعداً ملحوظاً في الحراك الثوري لمدينة حلب، وبات خروج المظاهرات المسائية فضلاً عن مظاهرات أيام الجمعة في أحياء مختلفة من المدينة أمراً اعتيادياً، ورغم الجهود الضخمة التي بذلتها القيادة الأمنية لقمع حراك المدينة، إلا أن إصرار أحرارها كان قد نقل ثورتها إلى مرحلة جديدة مختلفة.
تم تأسيس تنسيقية جامعة الثورة بمبادرة من إحدى التنسيقيات النشطة في مدينة حلب باسم “فلورز”، والتي كانت تضم عدداً من أبناء المدينة أو القاطنين فيها من خارجها، لذلك لم يكن هدف التنسيقية -جامعة الثورة- تنظيم الحراك الثوري في الجامعة فقط، بل إنّ واحداً من أهداف التأسيس كان رفد الحراك الثوري في أحياء المدينة بجموع الطلبة الثائرين من جامعتها، وإنْ لم يكن ذلك أولوية للتنسيقية التي انشغلت في الفترة الأولى من تأسيسها في حراك الجامعة نفسه، لتتمكن خلال أشهر قليلة من دفعه في نهج تصاعدي لم يقتصر على الاعتصامات داخل الكليات والمظاهرات الكبيرة في محيط الجامعة وساحتها، بل جاوزها إلى فعاليات ثورية مميزة أشرفت عليها مجموعتا بصمة وحرائر جامعة الثورة، واضعةً جامعة حلب على خارطة نقاط التظاهر السورية الأكثر فاعلية، وتكلّلت جهود التنسيقية أخيراً في توحيد أهم مجموعات الحراك الطلابي الثوري في شهر نيسان من عام 2012 باسم “جامعة الثورة”.
تميزت جامعة الثورة بجمْعِها للطلبة الثوريين في جامعة حلب من أبناء أحياء مدينتها المختلفة إضافة إلى أبناء المحافظات السورية ضمن تنسيقية واحدة، وهو ما مكنها من لعب دور مفصلي في حراك مدينة حلب الثوري، ففي الوقت الذي كان فيه الثوار من تنسيقيات المدينة المختلفة يعانون لترتيب أبسط اجتماع بين تنسيقيتين، في ظل الاختراق الأمني والقبضة الشرسة لأفرع نظام الأسد، كان هذا التواصل يتم بسهولة ضمن الهيئة العامة لجامعة الثورة التي تضم 800 طالب ينشط كثير منهم في تنسيقيات أحيائهم داخل المدينة.
فكان “أحمد سعد” مسؤول كلية الآداب ضمن جامعة الثورة، ينشط أيضاً في حراك حي صلاح الدين الثوري المميز كأحد أفراد تنسيقية “مشاعل الحرية”، أما مسؤول كلية التربية في جامعة الثورة والمعروف بالاسم الحركي “تربوي” فكان أيضاً أحد أعضاء تنسيقية حيي بستان القصر والكلاسة، وفي كلية العمارة كان “أنس رضوان” الناشط في حراك الجامعة مقرباً من تنسيقية حي الصاخور، وكذلك طلاب آخرون في تنسيقيات أحياء الشعار وسيف الدولة والمرجة والصالحين وحلب القديمة والأشرفية…
التنسيقيات الجديدة
مثل غالبية المدن السورية نَشَط الحراك الثوري في الأحياء الشعبية لمدينة حلب بصورة أكبر منها فيما يعرف بالأحياء الراقية، وفي الوقت الذي كانت فيه أحياء مثل صلاح الدين وبستان القصر والصاخور تشهد مظاهرات ضخمة نسبياً، كان أبناء أحياء حلب الغربية يعانون لتنظيم مظاهرة “طيّارة”!
وهو ما دفع أبناء هذه الأحياء ضمن تنسيقية جامعة الثورة إلى التركيز على تنشيط الحراك الثوري في أحيائهم، مستفيدين من قرب حرم الجامعة منها، ومستغِلِّين العلاقات الجديدة التي بنوها مع طلاب ثوريين من أحيائهم خلال الحراك الثوري في الجامعة.
فأسهم “أبو عدي المشارقجي” أحد مسؤولي كلية الميكانيك مع ysmsmb”” أحد مسؤولي كلية العمارة في تأسيس “تنسيقية حلب الجديدة”، والتي استفادت كثيراً من تنسيقية لطلاب الثانوي في الحي ينتمي إليها أحد أخوة أبو عدي، وتمكّنت التنسيقية بعد عددٍ من المظاهرات الطيّارة المسائية في أحيائها، مِنَ الحشد لمظاهرات كبيرة في أيام الجُمَع دُعِي إليها طلاب “جامعة الثورة” دعماً لها.
كما فعل “أبو أحمد” مسؤول كلية الهندسة المدنية و”حمزة الخطيب” مسؤول كلية الطب البشري، إضافة إلى “أبو العز” من المكتب الميداني و”جنى” إحدى مسؤولات مجموعة حرائر الثورة، في تأسيس تنسيقية “شارع النيل”، والتي تمكنت من تنظيم عدد من المظاهرات في المنطقة التي تضمّ أحياء السبيل والموغمبو والمحافظة.
ومع انتصاف عام 2012 كانت شوارع وأحياء الشهباء تغلي بتظاهرات الثوار، ودخلَت المدينة مرحلةً جديدة خرجَتْ فيها نسبياً عن سيطرة القبضة الأمنية لنظام الأسد.
توحيد تنسيقيات المدينة
أصبحت الأحياء الشعبية في حلب تشهد مظاهرات مسائية ضخمة تستمرّ لساعات على غرار تلك التي تحدث في عدد من المحافظات السورية، فكان لكل حي “قاشوشه” الذي يقود الهتاف ومنظمو مظاهراته الذين يشرفون على الحراك الثوري فيه، وفي الوقت الذي بدأَتْ فيه أرياف حلب تشهد تأسيس بواكير المجالس الثورية في المحافظة مثل “المجلس الثوري في حلب وريفها” والذي تأسّس بجناح عسكري باسم “لواء أحرار الشمال” كان يخوض معارك تحرير ريف حلب الشمالي، بدأنا في “جامعة الثورة” حراكاً تنظيمياً بين تنسيقيات المدينة لتوحيدها في مجلس ثوري موحد.
حدث أوّل اجتماعاتنا الرسمية مع عدد مِنْ تنسيقيات أحياء حلب الشرقية، في مكتب قرب حي المواصلات مطلع حزيران من عام 2012، والذي حضرتُه ممثلاً عن “جامعة الثورة” بترتيب من مسؤول كلية الحقوق فيها، وكانت نتيجة الاجتماع إيجابية بتفويض “جامعة الثورة” من المجتمعين لتيسير تشكيل مجلس المدينة الثوري.
ثم جاء الاجتماع الثاني مع تنسيقية حيَّي بستان القصر والكلاسة أواسط حزيران، والذي حضرتُه مع “أبو عدي المشارقجي” ممثّلَين عن جامعة الثورة، فيما رتَّب للاجتماع “تربوي”، وعُقِد الاجتماع في منزل متواضع في حي بستان القصر، يبدو أنّ التنسيقية كانت تستخدمه مقراً لها.
جلسنا في “صالون” المنزل ننتظر أنْ يفرغ أعضاء التنسيقية من اجتماع مع شاب يبدو أنّه قد أسّس تنسيقيةً مستقلةً لحيّ الكلاسة، وهو ما واجهه الحضور برفضٍ قاطعٍ “آمرين” الشاب بإلغاء تنسيقيّته والعودة إلى تنسيقية الحي، وعندما أصرّ على موقفه قام بعضهم بتهديده ليخرج الشاب على إثرها مُغاضِباً، ويتبعَه أحد أكثر أعضاء التنسيقية عصبيةً والذي عرفتُ فيما بعد أنه “أبو مريم” قائد مظاهرات البستان الشهير، فيما لحِق به شخص آخر لتهدئته وردعه عن إيذاء الشاب.
أبدى أعضاء التنسيقية تجاوباً كبيراً مع طرحنا، ووعدوا بتسهيل اجتماعات مماثلة مع عدد من تنسيقيات الأحياء القريبة منهم، وعندما اقترب موعد المظاهرة المسائية بدأ أعضاء التنسيقية تحضيراتهم لها بعد أنْ دعونا للمشاركة فيها.
لفت نظري في الاجتماع شاب هادئٌ لم ينطق بحرف واحد طوال جلوسنا، وما إنْ هممنا بالخروج من المنزل حتى أخذ مسدّساً حربيّاً أخفاه على خصره مرافقاً إيّانا إلى المظاهرة.
انطلقَت المظاهرة من أحد مساجد الحيّ كبيرةً بشكل لم أتوقّعه، وأخذَت تمشي في شوارع البستان فيما اتّخذتُ موقعي خلفها برفقة الشاب المسلح، وكلما كانت المظاهرة تتقدم كان شبابٌ ملثمون يحملون “عصيّ كهرباء” يقتربون من الشاب مخبريه عن تجاوزات تحصل هنا وهناك، كان أحدها عن بخّ عبارة ثورية على سيارة مركونة في الشارع، ليقوم الشاب بتوجيه الملثمين لسحب “علبة البخّاخ” من الشاب وتنبيهه لعدم تكرارها.
وصلَت المظاهرة إلى ساحة كبيرة نسبياً توقّفَتْ عندها، وبدأ المتظاهرون يرتصفون فيها مرددين هتافات الثورة وأهازيجها، بينما بقي الشاب يراقب المظاهرة من مسافة قريبة وبقيتُ قربه.
بعد ساعة تقريباً اقترب ملثم من الشاب المسلح مُعلِماً إياه بتحرك الأمن، ليقوم بالإشارة إلى شاب آخر بإنهاء المظاهرة التي انفضّت سريعاً بشكل منظم، ومشى معنا الشاب إلى مشارف الحي مودّعاً إيّانا دون أنْ أعرف عنه أيّ شيء إلا كونه عسكرياً منشقاً اسمه الحركي “أحمد دبيح”.
مظاهرة حاشدة في حي بستان القصر
دخل الجيش الحر مدينة حلب في رمضان\آب عام 2012، وفشلَت جهودنا في إنشاء المجلس الثوري الموحد للمدينة من تنسيقيّاتها بعد تسارع الأحداث.
أما “أبو مريم” فقد اختطفه “تنظيم داعش” في آب عام 2013 ولم يعرف مصيره حتى الآن، فيما استشهد “أحمد دبيح” كقائد جيش الإسلام في حلب، أثناء معارك فك الحصار عن المدينة أواخر عام 2016.