جامعة الثورة.. المظاهرات الكبرى

نوفمبر 9, 2022

ورد فراتي

مقالات

كانت مظاهرة ساحة الجامعة آخر تشرين الثاني عام 2011 والتي جاءت بمنزلة إعلانٍ عن انطلاق تنسيقيّة “جامعة الثورة”، بدايةَ مرحلة جديدة من الحراك الطلابي الثوري في جامعة حلب.

إذْ كان واضحاً منذ البداية أن التنسيقية تهدف إلى نقل الحراك الثوري الطلابي من صورةٍ “محلية” داخل الكليات، إلى حراك طلابي ضخم على مستوى الجامعة ككلّ، وهو ما تيسّر لها فعله بعد تنظيم مجموعات الكليات في الجامعة في شباط عام 2012.

ورغم العدد المَهُول من قوات حفظ النظام التي فرزَتْها “القيادة الأمنية” في حلب بالتنسيق مع رئاسة الجامعة للتواجد الدائم في حرمها، وقمع حراك طلابها، إلا أن المظاهرات ازدادت زخماً وعدداً، فأصبحت الجامعة تشهد مظاهرةً يومياً على الأقل!

حيث كُنّا ننسّق لمظاهرات متزامنةٍ أحياناً لتشتيت الأمن، وأحياناً أخرى كنا ننظم المظاهرات من عدّة كلياتٍ متجاورةٍ للتجمّع في ساحة قريبة بحيث يكون العدد ضخماً، ويصعب على قوّات حفظ النظام المفروزة للمنطقة التحرك لقمعها، خِشيةَ انقلابِ الطلبة عليهم ممّا أعطانا وقتاً أكبر للتظاهر أثناء انتظار العناصر للمؤازرات.

فضلاً عن زيادة عدد الاعتصامات والوقفات الاحتجاجية داخل الكليات، والتي كانت مشكلة حقيقية سابقاً، فأيّ اعتصام كان يواجه بهجوم للشبيحة والعناصر الأمنية، يغلق الطّلبة على إثره أبواب الكلية على أنفسهم متمترسين في بنائها، ويتجمّع الشّبيحة خارجها محاصرِيها ومنتظرين خروج من فيها لالتقاطهم فرادَى.

وهو ما دفَعَنا لوضع خطة جاهزة للتعامل مع مواقف شبيهة، فأيّ اعتصامٍ يتم تنظيمه، تُعَدّ معه مسبقاً “مظاهرة طيّارة” في كلية قريبة، تنطلق فورَ إطباق الحصار على المعتصمين، سامحةً لهم بدقائق ثمينةٍ أثناء انشغال عناصر حفظ النظام والشبيحة في ملاحقة المتظاهرين، فيخرج مَنْ في الكلّية دون اعتقالات.

إلّا أنّ أعظم ما عمِلتْ عليه “التنسيقيّة” خلال الحراك الطلابي في الجامعة هو تنظيمها لمظاهرات كبرى خارج الحرم الجامعي، على مرأى ومسمع أهالي المدينة وأجهزة الأمن على حد سواء.

فجاءتِ المظاهرة الثانية التي حشَدَتْ طلاب الجامعة الثوريّين مِن كلّ الكليات مُنطلِقَةً من ساحة الجامعة باتجاه “نزلة أدونيس” أواسط شباط عام 2012 على غرار الأولى، مُغلِقَةً واحدة من أهم عُقَدِ المواصلات في المدينة، وهو ما دفع فرع “حزب البعث” في الجامعة لفرز “باصين” دائمين لقوات حفظ النظام في ساحتها، إضافة إلى العناصر متعدّدي الانتماء للأفرع الأمنية في المدينة، والذين باتوا يتناوبون على التسكع فيها انتظاراً لمظاهرة يقمعونها.

لذلك وبعد إغلاق الساحة أمامنا بدأنا بدراسة خيارات أخرى لنقاط تظاهر تمكّننا من حشد أكبر عدد من الطلاب قريباً من الحرم الجامعي.

تتربّع جامعة حلب على 175 كم2 مقسّمةً إلى ثلاثِ مناطق تمتدّ بشكل شريطيّ من الشرق إلى الغرب، حيث تفصل ساحة الجامعة حرَمَها الشرقيّ عن حرَمِها الأوسط الذي ينتهي غرباً بالمدينة الجامعية، فيما يفصِلُ شارعٌ يمتدّ من الشمال إلى الجنوب المدينةَ الجامعية في الحرم الأوسط عن كُلّيات العمارة والآداب والميكانيك في الحرم الغربي.

ولأنّ الجامعة ككلّ تتموضَعُ غربيّ مدينة حلب، فإن أكثر الطلاب من الحرم الغربي عند انتهاء الدوام، ينزلون إلى ساحة الجامعة سالكين واحداً من شارعَين رئيسيَّين متوازيَين يتّجهان من الغرب إلى الشرق، كانا خيارَينا الوحيدين كنقاط تظاهر ضخمةٍ بديلة عن ساحة الجامعة.

يبدأ الشارع الجنوبي من “دوار الصخرة” قرب كلية الآداب نزولاً باتجاه “حديقة المارتيني” شرقاً، فاصِلاً “حيّ الفرقان” جنوبَه عن حرم الجامعة الأوسط شماله، وهو الشارع الذي كان خيارَنا الأول لمظاهرة كبرى انطلقتْ ظُهرَ يوم الأربعاء أواخر شهر آذار عام 2012، وكان من المفترض أنْ تستمرّ حتى توافُدِ باقي المظاهرات إليها، لكنّ إطلاق الرصاص الحيّ عليها من “الشبيحة” قرب دوار الصخرة فرضَ إنهاءها، بعد أنْ تسبّب بسقوط أول شهداء الجامعة في مظاهراتها “أنس سمّو” طالب السنة الثانية في المعهد الهندسي، إثر رصاصة غادرة أصابته في رأسه.

كان إطلاق الرصاص الحيّ على مظاهرة طلابية سابقةً فرضتْ علينا التّفكيرَ مطولاً في مظاهرات جديدة خارج الحرم الجامعي، خصوصاً وأنّ الإشاعات في أروقة الجامعة بدأت تتحدّث عن كون الاستهداف رسالةً إلى الطلاب ألا يغادروا بحراكهم أسوارها.

إلا أنّ إصرار الطلاب الثوريين عبرَ عدّة نقاشات في مجموعات التنسيقية على أن أفضل طريقةٍ لتكريم الشهيد هي الاستمرار في النّهج التصعيديّ للمظاهرات، دفعَنا إلى التخطيط لمظاهرة ضخمة أخرى في الشارع الثاني “الشمالي” مطلع شهر نيسان عام 2012، تنطلقُ مِن الحرم الغربي مِنْ كليتي العمارة والميكانيك، باجتماع مظاهرتين عند “دوار العمارة” بدايةَ الشارع، ومتجهةً عبره غرباً باتجاه فندق “بولمان الشهباء” مروراً ببابَيْن للمدينة الجامعية جنوب الشارع، ومن ثمّ باب للحرم الأوسط للجامعة عند “دوار العائلة” الذي ستنضمّ منه إلينا مظاهرة ثالثة، وانتهاءً بباب المشفى الجامعي قبالة فندق “البولمان” الذي اعتاد الطلاب أن يسلكوا الشارع الممتدّ منه جنوباً إلى “ساحة الجامعة” كطريقٍ مختصر إليها، والذي قرّرْنا أنْ تسلكه مظاهرتنا إليها بعد أن يجتمع لنا حشد ضخم يصعب تفريقه.

ولأنّ حادثة اطلاق النار على المظاهرة السابقة التي استشهد فيها أنس -تقبله الله- تمّت من قِبَل سيارة تُقِلّ شبّيحة مسلحين، فقد تطوّع بعض الطلبة لإغلاق الشوارع المتجهة إلى مكان سير المظاهرة بحاويات القمامة، فيُغلَق بذلك الطريق بجموع السيارات خلف “الحاويات” مُسبّبَةً أزمةً مروريّة تمنع الدوريات والشبيحة من الوصول السريع إليها.

وهكذا في تمام الساعة الواحدة ظهراً -على ما أذكر- انطلقنا مِن ساحة كلّية العمارة عبر بابها الرئيسي إلى “دوّار العمارة” القريب، والذي اتجهتْ إليه مظاهرة أخرى انطلقَتْ من الساحة قرب كلّية الميكانيك إلى الغرب منّا، لتلتقي المظاهرتان عند الدوّار في مظاهرة حاشدة بدأت المسير باتجاه “دوّار العائلة” شرقاً، وتمّ إغلاق الطرقات خلفنا تماماً كما خططنا.

مظاهرة في كلية العمارة – جامعة حلب

في الوقت نفسه بدأت الكتلة الأكبر من المظاهرة متمثّلة بطلاب حرم الجامعة الأوسط الاحتشاد قبالة كلّية الزراعة منتظرين وصولنا قريباً من “دوّار العائلة” لينطلقوا في مظاهرتهم منضَمِّين إلينا، وهو ما تنبّه له عناصر حفظ النظام المتمركزون عند الباب قُرب الدوّار فأغلقوه استباقاً لانطلاق المظاهرة الثالثة، والتي بدأ منظِّموها يقفزون سور الجامعة مُنضَمِّين إلينا فرادى، ومُكمِلين معنا المسير بمحاذاة سور الجامعة الشمالي باتجاه باب مشفاها الخارجي.

تحرّكتْ مجموعات مختلفة من الشبيحة والعناصر الأمنية لقطع الطريق على المظاهرة قبل وصولها إلى مدخل المشفى، مشكِّلين ما يشبه صفّاً قبالَتنا ينتظر وصولنا لبدء الهجوم، ورغم اتّفاقنا مسبقاً أنّنا سنواجه الشبيحة في حال اضطرارنا لمواجهتهم! إلّا أنّ قِلّة الأعداد بعد إغلاق باب الحرم الأوسط والخوف من الاستهداف بالرصاص الحيّ على غرار مظاهرة “دوّار الصخرة” قبلها بأيام، دفعَ الطلاب للتفرُّق مع هجوم العناصر الأمنيّة والشّبّيحة علينا، فانفضّتْ المظاهرة بعد فشلها في الوصول إلى ساحة الجامعة كما خطط لها، لكنها نجحت في تسجيل أطول مظاهرة في جامعة حلب حتى تاريخه.

كان علينا الانتظار شهراً كاملاً حتى مطلع أيار عام 2012، لنتمكّن من معاودةِ التظاهر انطلاقاً من ساحة الجامعة باتجاه “نزلة أدونيس”، وهي المظاهرة التي كرّرْناها مرّةً أخرى أواسط أيار، قبل أنْ يقرّر وفد “المراقبين” زيارة “جامعة حلب” في 17-5-2012، بعد أنْ أصبحت إحدى أكبر معاقل الحراك الثوري في سوريا، لتخرج حينها أكبر مظاهرات مدينة حلب على الإطلاق في ساحة جامعتها، والتي عُرِفَت لاحقاً باسم “مظاهرة المراقبين”.

المصـــدر

المزيد
من المقالات