حماية آثار حلب القديمة المُحَرّرَة – 2013

نوفمبر 17, 2022

ورد فراتي

مقالات

عندما دخل الثوار مدينة حلب في يوليو \ تموز عام 2012 مطلع شهر رمضان، تمكنوا من تحرير أحياء حلب الشرقية بشكل كامل إضافة إلى عدد من أحياء المدينة الشمالية، فيما بقي معظم القسم الغربي من المدينة تحت سيطرة نظام آل الأسد، بينما شكّلَت “أحياء حلب القديمة” منطقةً تنازَع فيها الطرفان سيطرتهما عليها، حيث ارتسمَت داخل هذه الأحياء خطوط جبهات طويلة كان ضمنها “الجامع الأمَويّ” -أو الجامع الكبير- في حلب، والذي يُعتبَر مع قلعة حلب أهمّ معالم المدينة التراثيّة، حيث كانت قِبليَّةُ الجامع (طرفه الجنوبي) تحت سيطرة الثوار، بينما كان رواقه الشمالي الذي تقع فيه مئذنة المسجد الشهيرة منطقة جبهة، يتمركز فيه أحياناً الثوار، ويتسلَّل إليه في أحيان أخرى جنود النظام وشبيحته في الأشهر الأولى للتحرير، قبل أن يتمكّن الثوار من إحكام سيطرتهم على كتلة المسجد بشكل كامل، حيث يُشرِف القسم الشمالي للمسجد على سوق الزهراوي ودوار السبع بحرات، الذي حافظ النظام على سيطرته عليه.

أقدم مدن العالم المأهولة

تُعتبَر مدينة حلب أقدمَ مدن العالم التي ما تزال مأهولةً بالسكان، ووضعَت الأمم المتحدة أحياء حلب القديمة على قائمة التراث العالمي عام 1986م، في اعتراف بأهميتها الكبيرة للتراث الإنساني، حيث تضم المدينة القديمة نسيجاً عمرانياً مذهلاً يمتدّ من قلعتها إلى داخل أحيائها القديمة، على شكل أسواق وبيوت قديمة ومساجد وكنائس وحمامات وغيرها..

إلا أنّ كل هذا لم يكن ليشفَع للمدينة عند نظام آل الأسد، الذي بدأ منذ اليوم الأول لدخول الثوار أحياءَها القديمة بقصفها بمختلف أنواع الأسلحة، وهو ما سبّب حريق “سوق المْدِينِة” -كما يلفظ اسمه أهل حلب- في سبتمبر \ أيلول عام 2012، والذي التهم محلات السوق إضافة إلى أجزاء من المسجد الكبير المجاور له، والمكتبة الوقفيّة التي أُنشِئَت بجهود أهلية في قبو المسجد الكبير، حيث كانت المكتبة تضم عدداً من التحف والمخطوطات الأثرية الخاصّة بالمدينة، ليَقتحِمَ نيرانَ الحريق عددٌ من ثوار المدينة الذين كانوا يعملون في المكتبة قبل انطلاق الثورة، مُنقِذين عدداً من هذه المخطوطات من التّلَف.

بسبب القصف المُتكَرِّر لنظام آل الأسد على الأحياء القديمة، انطلقَ عددٌ من النّداءات المحليّة والدوليّة التي طالبت بتحييد المنطقة الأثرية عن الصّراع، وتوقّف النظام عن استعمال أسلحة تدميريّة في تلك المناطق، لكنّ النظام لم يستجب لهذه الدعوات، بل باتَت حملاته على المناطق الأثريّة في المدينة أكثر شراسة، ثم جاء ردّ النظام حاسماً على النداءات الشّبيهة باستهدافه المباشر بقذائف الدّبابات لمئذنة الجامع الكبير مُدَمِّرَاً إيّاها في أبريل نيسان عام 2013، ليصبح واضحاً أنّ هذا النظام لن يتوانى عن فعل أيّ شيء لاستعادة سيطرته على المدينة مرّة أخرى، ولو عنى ذلك مسحَها بآثارها وبشرها عن وجه البسيطة!

سمحَت لي دراستي في كلية العمارة في جامعة حلب بالاطّلاع على جزء جيّد من آثار هذه المدينة، فمنهاج الكلّيّة يتضمّن عدداً من المواد التي تهتمّ بتاريخ العمارة في العالم وفي المنطقة بشكل أساسي، إضافة إلى استثمار مديرية الآثار والمتاحف في حلب -قبل الثورة- لطلبة الكلّيّة في مشاريعها التي كانت تُعنَى بعمليات الترميم فيها، وهو ما سمح لدفعاتٍ منهم باطّلاع جيّد على تراث المدينة وآثارها وطريقة العمل في مجال الترميم الأثريّ.

ومع انطلاق الثورة السورية وانضمام طلبة جامعة حلب بقوّة إلى صفوفها، ضمن حراك طلّابيّ يُمكن اعتباره الأبرز ضمن مسيرتها، وتحوّل عدد كبير من هؤلاء الطّلبة إلى فاعلين في مختلف جوانب الثورة المدنيّة وحتى العسكريّة، بعد دخول الثوار إلى المدينة وانتقالهم إلى شطرها المُحَرَّر، ليكون من بينهم عدد من طلّاب كلّيّة العمارة في حلب، وبعد تزايد حدّة عمليّات الاستهداف للمدينة القديمة في حلب، اجتمع عدد من طلبة الكليّة في المنطقة المحررة برفقة بعض المهتمّين بتراثها ليشكّلوا “الجمعية السورية لحفظ الآثار والتراث”، والتي تعود فكرة تأسيسها إلى أواخر عام 2012، إلّا أنّ إطلاقها بشكل رسميّ وترخيصها ضمن “مجلس محافظة حلب الحرة” لم يتمّ حتى مايو \ أيار عام 2013، حيث ساهمَت الجمعية في تأسيس “شعبة الآثار” ضمن المجلس.

مرفق 1 - الجمعية السورية لحفظ الآثار والتراث في حلب - SAPAH.jpg

كانت المهمّة الأولى للجمعية التي نفّذَتْها ضمن المدينة القديمة في حلب هي حماية المنبر الخشبيّ للجامع الأموي، وذلك بسبب كشف قنّاص تابع لنظام آل الأسد قبليّةَ المسجد التي يوجد فيها المنبر، حيث سبَق للقنّاص استهداف سقفيّة المنبر برصاصةٍ أتلفَت جزءاً منه، ليتمّ وبعد التشاور مع مجلس محافظة حلب الحرّة تقرير تفكيك المنبر ونقله إلى مكان آمن بإشراف المجلس، نظراً لصعوبة حمايته في مكانه.

وتعود أهميّة هذا المنبر الخشبي الرائع لكونه يعود إلى عهد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، الذي أمر بصنعه عوضاً عن منبر السلطان نور الدين الزنكي الذي احترق في حريق الجامع الكبير عام 679، حيث كان نور الدين قد أمر بصنع منبر الجامع الأقصى مماثلاً لمنبر حلب، فيما يشكّل قيمةً تراثيّة وثقافيّة للمسلمين في كلّ مكان.

تمّ تحديد يوم التّنفيذ بعد التّنسيق مع لواء التوحيد الذي يسيطر على المنطقة، حيث تمّ وضع ستائر تُغطِّي المنطقة قبل يومين من موعد التنفيذ لدراسة ردّ فعل القناص، ثمّ وفي الساعة السابعة صباح يوم الإثنين الموافق لـ 13 مايو \ أيار عام 2013 بدأَت عمليّة التّفكيك، وذلك بعد حشد عدد من الأكاديميّين والحرفيّين الذين أدخَلْنا بعضهم بشكل سرّي إلى القسم المحرّر، ليستمرّ العمل 10 ساعات أصيبَ فيهنّ أحد الحرفيّين برصاصة قنّاص في يده، ليتمّ حفظ المنبر بعد تفكيكه ونقله إلى مكان آمن بإشراف شعبة الآثار ضمن مجلس محافظة حلب الحرّة، والتي تتولّى حفظه حتى اليوم.

مرفق 2 - تفكيك منبر الجامع الأموي في حلب - أيار 2013.jpg

استمرّت الجمعية بالعمل ضمن أحياء حلب القديمة لحماية ما تستطيع من آثارها، مع استمرار القصف الوحشيّ لقوّات نظام آل الأسد وحلفائه عليها، والذي لم يعُد مقتصراً على قذائف المدفعيّة والهاون، بل كان للآثار حصّتها من “البراميل المتفجّرة” التي كان النظام يستهدف بها المدينة، مخلّفاً دماراً واسعاً في آثارها.

مرفق 3 - صورة جوية تظهر الدمار الواسع في محيط الجامع الكبير أواخر عام 2014.jpg

صورة جوية تظهر الدمار الواسع في محيط الجامع الكبير أواخر عام 2014

ضمّ كادر الجمعيّة عدداً من أبناء المدينة وأبناء المحافظات الأخرى الذين كانوا يرون حمايةَ “الحجارة” جزءاً مهمّاً من حماية الإنسان نفسه، ليكون من بين هؤلاء الثوار الشهيد المهندس “أنس رضوان”، والذي دفعه حبّه للمدينة القديمة للاستقرار في أحيائها، متطوّعاً ضمن إحدى كتائب الجيش الحر فيها، وعاملاً على توثيق القصف على آثارها، حيث اختارَتْه إحدى تلك القذائف لتكتُبَ نهايتَه في المكان الذي أحبّ وأحببنا..

المصـــدر

المزيد
من المقالات