كانت ارتدادات الثورات التونسية والمصرية واليمنية والليبية في سوريا افتراضية وتمثلت بالدعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي والجلسات الضيقة والمغلقة داخل سوريا لتقييم الوضع ومحاولة إيجاد طريقة لإشعال الثورة في سوريا، حتى وقعت مظاهرة الحريقة في الـ 17 من شباط 2011 وبرهنت للسوريين والنظام أن الشارع مهيأ للانتفاضة، وهنا سارع الناشطون السياسيون ضمن جماعاتهم للتحرك، فكان اعتصام السفارتين المصرية والليبية نصرة للشعوب الشقيقة ومطلباً بتحرر الشعب السوري بطريقة غير مباشرة.
فشلت العديد من الدعوات التي أطلقها ناشطون وصفحات على موقع فيس بوك في شهر شباط والنصف الأول من شهر آذار، إلى أن حصل ما كان ينتظره ملايين السوريين والنظام، فكانت في الـ 15 من آذار المظاهرة التي اعتمدها القسم الأول من السوريين انطلاقة الثورة السورية، والتي خرجت في سوق الحميدية بجوار الجامع الأموي وسط العاصمة دمشق.
حراك شعبي بعيد عن النخب السياسية
من الجدير بالذكر توضيح أهم ما تميزت به مظاهرة الحميدية في الـ 15 من آذار 2011، بأن معظم المشاركين فيها لم يكونوا من الطبقة السياسية المنتمية لتيارات أو جماعات، أو على الأقل ممن يرتبطون بالشخصيات السياسية المعارضة البارزة في سوريا وما أنتجه هؤلاء السياسيون من ربيع دمشق وإعلانها. وإنما مثّل المشاركون في مظاهرة الحميدية مختلف طبقات المجتمع البعيدة عن الحراك السياسي المعارض، والبعيدة عن الأدلجة أو الانحيازات أو التوجهات بين إسلامية أو يسارية وغيرها من التيارات.
في حين كان الناشطون السياسيون ومن يدور في فلكهم من أصدقاء أو مثقفين، حاضرين في اعتصام السفارتين والمظاهرات الإلكترونية على مجموعات الفيس بوك المغلقة ومن ثم في مظاهرة اليوم التالي في الـ 16 من آذار 2011.
من دون تنسيق.. ماذا حصل في الحميدية؟
يروي الأستاذ سامي الدريد لموقع تلفزيون سوريا، تفاصيل ما قبل وأثناء وبعد مظاهرة الحميدية، حيث فشل مع مجموعة من أقربائه وأصدقائه في التظاهر في الـ 12 من آذار، وقرروا أن تكون أولى صرخات الحرية في يوم الـ 15.
أشار الدريد وهو أستاذ اجتماعيات إلى أن حالة الترقب في سوريا لوصول موجة الربيع العربي قد أخذت وقتها كفاية، والجميع ينتظر الشرارة التي ستفجر الوضع، فلم تنجح مظاهرة الحريقة في الـ 17 من شباط في انتفاضة العاصمة دمشق، وكذلك الأمر بالنسبة لاعتصام السفارة الليبية.
وأوضح الدريد أن مظاهرة الحميدية لم يسبقها جلسات تنظيمية لمجموعات شبابية أو مجموعات من الناشطين كما سيحصل لاحقاً في مختلف المدن السورية، وإنما كانت استجابة ناجحة للدعوات التي فشلت قبل ذلك. ودّع الدريد عائلته وخرج مع أخيه وابن أخته وصديقه إلى الجامع الأموي دون أن يكون هنالك ساعة محددة أو مكان محدد للتجمع والبداية، ولذلك لم يكن ممكناً إلا الذهاب إلى الجامع الأموي وسوق الحميدية المجاور لمراقبة الوضع عن كثب واتخاذ قرار بزمان ومكان البداية
مع وصول الدريد ورفاقه إلى المكان، وبعد أداء صلاة الظهر، توجهوا إلى ساحة المسكيّة على الجدار الغربي للأموي، وهناك لاحظوا الانتشار الأمني المكثف، وهو ليس انتشارا لعناصر حفظ النظام أو الشرطة وإنما عناصر أمن بلباس مدني، لكن تصرفاتهم ونظراتهم وانتشارهم كان يؤكد قطعاً مَن هم، ولذلك قررت مجموعة الدريد أن تتفرق قليلاً كي لا تلفت الانتباه إليها.
بعد دقائق سمع الدريد صوت أخيه الذي كان يصرخ بوجه أحد رجال الأمن ويسأله لماذا قام بتصويره، وبعد أن توتر الموقف إلى أقصى درجة، لم يعد هنالك خيار أمام الدريد إلا أن يطلق الشرارة بهتاف “تحيا سوريا حرة”.
تجمع المنتظرون على الفور وانطلقت المظاهرة وتوجه العشرات إلى مدخل سوق الحميدية والتقوا بمجموعة مروة الغميان وصديقتها وزميلتها في المعهد نورا الرفاعي وكذلك أحمد الحمود من إدلب والناشط نبيل الشربجي والإعلامي شفيق عبد العزيز المنحدر من داريا وغيرهم، والذين تعرفوا إلى بعضهم بعضا في فرع الخطيب بعد اعتقالهم من المظاهرة.
حاول المتظاهرون تحريض الحاضرين في السوق للمشاركة، إلا أن عدد المشاركين الذي بقي على حاله كان سيسهل اعتقال الجميع، ولذلك تفرقت المظاهرة بعد دقائق في ساحة الحريقة المجاورة، في حين أكمل الدريد ورفاقه ومروة ورفاقها وأحمد الحمود مظاهرتهم لحين جاء أمر اعتقالهم من الضابط، كما يظهر التسجيل المصور.
اعتقال مروة الغميان ونورا الرفاعي وبعض الشباب
تجمع المعتقلون في فرع الخطيب وهناك تعرفوا إلى بعضهم بعضا، وبعد أسبوعين من الضرب والتعذيب والإهانات نقلوا إلى فرع أمن الدولة، وهناك بدأت طلائع المعتقلين من مظاهرات سوريا بالوصول إلى الفرع، ليحدثوهم عن أخبار الثورة وأن البلاد انتفضت على النظام.
حاول الدريد جاهداً أن يصف خليط المشاعر في لحظة الهتاف الأول، التي تطلبت منه تجميع كل ما يملكه من شجاعة، لكنه فشل.
بعد خروجه من المعتقل استقر الدريد في حي القدم الدمشقي، من دون أن يحصل على أي معلومة عن ابن أخته، وهناك نشط في مختلف المجالات لحين تهجيره قسرياً في أيار من عام 2018 إلى الشمال السوري.
استقر الدريد الآن في مدينة جنديرس بمنطقة عفرين ويعمل حالياً مدرس اجتماعيات في مدرسة المدينة الإعدادية.
التقى الأستاذ سامي الدريد مع أحمد الحمود في إدلب عام 2020، وكتب الحمود منشوراً على حسابه في فيس بوك قال فيه: “اليوم وبعد 9 سنين وشوي التقيت بأيقونة ورمز الكفاح والنضال بثورتنا لم يذكر اسمه على شاشات التلفزة ومواقع التواصل مثله مثل كثيرين قدموا بصدق ولايزالون.. الأب والأخ والصديق سامي الدريد اللي وقتها صاح قوموا وانفضوا غبار الذل عنكن بوسط سوق الحميدية.. اعتقلنا سوا واتعذبنا سوا وضحكنا سوا بنفس الزنزانة ورسمنا نفس الهدف بعد ما طلعنا .
ما صدف والتقينا بعدها، اليوم التقينا لأول مرة من سنين ضمينا بعض وما قدرنا نحكي ولا كلمة
شكرا على الاستضافة أبو أيمن بفتخر فيك وبأمثالك.. كل عام وإن ثورة”.
(من اليمين مروة الغميان وفي الوسط الأستاذ سامي الدريد وإلى جانبه أحمد الحمود)
حمل الحمود السلاح في صفوف الجيش السوري الحر ودافع عن شعبه، وبعد أن انتقل إلى تركيا، عاد إلى إدلب.
وختم الدريد حديثه معنا بالقول: “الحرية غالية ومقدسة.. وكلما خفّض الإنسان من ارتباطاته بالحياة أحسّ بالحرية أكثر وكان لصيقاً بمبادئه.. لا أطمح للخروج من سوريا”.
وفي اليوم التالي لمظاهرة الحميدية، كانت دمشق مع موعد آخر من المظاهرات، حيث تجمع عشرات الناشطين والسياسيين والحقوقيين وعدد من ذوي سجناء الرأي، في ساحة المرجة قرب وزارة الداخلية، للمطالبة بإطلاق سراح معتقلي الرأي من أقبية المخابرات وسجن صيدنايا.