من الصور المحفورة بالذاكرة جثة الشهيد أمام مقر الكتيبة في حلب، زميل الدراسة والنضال وجلسات القنص كهواة حرب لا باع لنا فيها، تمالكت نفسي ألا أبكي أمام باقي المقاتلين، لكن شهقات صديقي فوق رأس “أبو يزيد الدرعاوي” فجرت عينيّ بسيول الدمع المنهمرة بحرقة قلب.
قائد اللواء والكتيبة والذي يعرف “أبو يزيد” قبلي بأربع سنوات كان كالصخرة، واقفاً بصمت أعلى من كل صرخاتي أنا وصديقي. بعد أكثر من 100 حالة مشابهة لوداع رفاق السلاح، وثبات أبو صالح أمام صرخات أمهات الشهداء، سألته مرة كيف لك أن تتمالك نفسك؟
قال لي الموضوع ببساطة إننا كلنا سنموت إذا بقينا على هذا الدرب، ومَن يستشهد باكراً يفوز أكثر، يبتعد عن الأخطاء والفتن وما تجره عليه من كلام الناس يلوكونه بألسنهم ويقذفونه عند أول زلّة.
وهكذا مضت الأيام تحت وابل البراميل المتفجرة و20 صنفاً من الصواريخ التي فتكت بنا ومَن معنا من المدنيين، حتى ملّ منا الموت وسئم هذا الروتين. نفس القتيل والضحية والمكان والزمان والوجوه الشاحبة المحمولة على أكتاف قلة قليلة ممن بقى.
استشهد الساروت اليوم بعد أن تنبّأ بموته قبل ست سنوات.. ستٌ من الإصرار والضياع والشتات، ليدفن غداً في إدلب وحماة التي هتف لهما من عاصمة ثورتنا حمص العدية.
يُجسّد الساروت الثائر السوري بمجمل الصورة بعيداً عن التفاصيل، بعبثيته التي هزّت عرش الأسد، وإصراره على المواجهة، وخذلانه من القريب والغريب، من أصحاب البيانات.
“بدنا نفتح طريق للعائلات يا بو محمد” والساروت مستلقٍ على سرير مشفى ميداني في حمص المحاصرة.. لا أعلم إلى متى ستبقى هذه الجملة تتردد في رأسي مزاحمة آلاف الصور والأصوات. الساروت الذي فقد 60 من كتيبته لم يجزع لذلك بقدر ما كان مقهوراً لأن المعركة فشلت. ومَن للعائلات من بعدك يا حارسهم؟ “جرح الأخوة وجرح الوطن مين يشفيه”؟
يجسّد الساروت حرفياً حكاية الثورة. مثالاً مثالياً عن الثائر السوري، ابن البلد وصاحب العاطفة الجياشة، ابن الثورة التي سبقه في سبيل نجاحها أربعة من إخوته، وعشرات الرفاق والأقرباء.
الساروت الزاهد أطرب مسامعنا بأناشيد الثورة الهدارة، ومن هنا جاءت قدسيته، ابن ثورة 2011 وابن حمص العدية وابن المظاهرة الأولى وحارس المنتخب ولسان الثوار.
“يا مَن خذلت الخاي”، قالها الساروت بوضوح لمن يريد أن يسمع، خاصة وأن الخذلان بدأ من حمص فعلياً، لكنه لم ينته بها ويبدو أنه لن ينتهي في هذا العالم القذر. ومع ذلك رفض الساروت أن يكون ضحية تتقاذفها بيانات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبعد مجازر الحصار في حمص القديمة وبابا عمرو قرر الساروت حمل السلاح.
قد يظن البعض أن التحول من أقصى السلمية إلى السلاح هو فقدان للهوية، إلا أن هذا التحول خاضه عشرات الآلاف من المتظاهرين، مؤمنين جميعاً بعدم كفاية المظاهرات مع هذا النظام. كان التحول للسلاح أول اختبار للساروت أمام انعدام الخيارات، في وقت كان الثوار مضطرين أن يختاروا بين سيئ وأسوأ، كان الساروت يفقد هذه الرفاهية أمام الحصار وكارثية المجازر ذبحاً بالسكاكين من قبل الجيران الطائفيين.
وبعد أن بات عدد الرصاص في جعب الساروت ورفاقه أقل من عدد جند العدو المتربصين، كان الاختبار الثاني للساروت أمام انعدام آخر للخيارات. وهُجّر أبناء حمص إلى ريفها الشمالي الذي يبدو أن الساروت لم يكن مرتاحاً فيه لتكون إدلب محطته الأخيرة بعد إجازة قصيرة في تركيا. بعد أن واجه فقداناً ثالثاً للخيارات كي يصل إلى إدلب.
كُتب على الساروت أن يفقد الخيارات حتى عندما أصرّ على القتال في إدلب، إدلب التي تغيرت ملامحها كثيراً خلال السنوات الخمس الأولى واستقر بها الحال كما هي الآن. ولقي في “العزة” مستقراً مناسباً لحمل البندقية مع من تبقّى من كتيبته.
حافظ الساروت إلى جانب البندقية على الغناء، أملاً بموطن كالجنة، لا تهزّه دموع والدته إن أتاها بـ “ثوب جديد”. مقاتلاً شرساً فداء “لأجل عيون حمص” وسوريا.
وهكذا قصّ الساروت الحكاية بنهاية متوقعة جداً، فـ “هيجذ تموت الزلم”، لتكون سوريا الثورة بعيداً عن الأسد و”حرام عليه”.