أسهمت عوامل عديدة في تثبيت الكتل البشرية الكبرى للسوريين خلال السنوات القليلة الماضية: ومنها تخامد العمليات العسكرية؛ إغلاق المعابر البشرية بين مناطق سيطرة النظام والشمال المحرر؛ تصلب حدود هذا الأخير مع الجارة تركيا؛ التشدد في مكافحة التهريب من هذه الدولة إلى الملاجئ الأوروبية. وهكذا استقرت تجمعات ضخمة من السوريين الذين يعيشون ظروف حياة متقاربة نسبياً في إطار واحد؛ تحت سلطة الأسد، أو الإدارة الذاتية الكردية، أو في الشمال المحرر؛ مناطق النفوذ التركي وإدلب، أو في تركيا نفسها، أو في أوروبا، من دون إغفال دول جوار مكتظة باللاجئين كالأردن ولبنان.
منذ البداية لم يكن جمهور الثورة واحداً، كما صدحت الشعارات، غير أنه كان يملك تماهياً شعورياً ما. وقد أثر الجمود السكاني الأخير في شطره إلى ضفتي داخل وخارج؛ يشمل الأول المناطق المحررة ويبدأ الثاني بمدينة الريحانية التركية ولا ينتهي في كندا. لا سيما مع بدء ظهور نتائج للخيارات التي سلكها المرء خلال العقد الماضي، أو ساقته إليها الأقدار. فأخذت معالم «النعمة» تظهر على من هاجروا؛ ملابس ومدارس ورحلات في الغابات، في حين كانت الظروف تزداد صعوبة على من يعيشون في الشمال، بعد تقلص المساحة وزيادة التهجير وضعف فرص العمل واختلال الأمن وتهالك الخدمات، فضلاً عن الخطر العسكري الذي لم يزُل كلياً على الحياة أو على السكن، ناهيك عن غموض المستقبل الذي يبدو التفكير فيه ترفاً والتخطيط له عبثياً.
تباعد الشقيقان، على مضض، إذاً. اتسعت الهوة في اليوميات والهموم. ولم تؤدّ وسائل التواصل سوى إلى زيادة «تصوير» المسافة التي تكبر يوماً بعد يوم، ودون أن تخفف منها الحوالات المالية. أما سياسياً فقد حافظت ندرة من المهاجرين على المشاركة في نشاطات متباعدة، مدفوعين برغبة في إثبات أنهم لم يتخلوا عن القضية، فيما بدا أن سكان الشمال «مرابطون» على ثغر الثورة وعهدها المقيم، سواء أكانوا كذلك بالفعل أم لا، مختارين أو انتخبتهم المصادفات. وبمؤازرة من «عقدة الناجي» التي تصيب المغتربين، ومفاعيل الحنين الرومانسي، استقر هؤلاء على شعور بالنقص تجاه من بقوا «على الأرض» يعانون شظف عيشها وخطورته. خاصة بعد الفشل المريع لهياكل المعارضة في الخارج، وتمسك مجمل من تعاقبوا عليها بمكتسبات فردية بخسة. والحال أن «الداخل» في المناطق الثائرة، ثم المحررة، كان قد بادر إلى سحب ثقته من «الخارج» بعجلة تكاد توازي سرعته في منحها، ومراراً وتكراراً، حتى استقر الأمر على اعتبار «الائتلاف» سبّة وعضوية «هيئة التفاوض» مشاركة في قتل السوريين، وسوى ذلك.
هكذا، محمولاً بالخيبة، مفعماً بالخذلان، شاعراً بالغبن؛ أمسك الشمال بصك الشرعية. حتى صارت زيارته في «سياحة ثورية» مطهراً ضرورياً يجب أن يمر به المعارضون السياسيون الطامحون، ولو تحملوا في سبيل ذلك الكلام اللاذع والاتهامات العالية النبرة من «أهلنا» في الداخل.
لكن مشروعية الألم ذات قيمة رمزية وأخلاقية وعاطفية في حقيقة الأمر، وهي لا تعني صحة الموقف بالضرورة. ولعله قد آن أوان مناقشة الشمال في المنظومة التي يمكن استخلاصها من شذراته الغاضبة، خاصة بعد ترسخ ركائز أساسية خلافية يمكن تبينها من موقفه؛ وأبرزها النزعة الثأرية التي تراكمت بفعل موجات توحش النظام، والمحتوى الطائفي المعمم لهذه الميول الانتقامية الدموية بطبيعة الحال، وفرض نمط الحياة السنّي، المحافظ على الأقل، وتقديمه كمشروع للمستقبل. مع نقص في الاكتراث لمعايير العالم وقيمه ما دام قد «تآمر» علينا، ودون اهتمام بما يمكن أن يكون عليه رأي سوريين آخرين سيكونون «شركاء» إجباريين في رسم صورة البلاد لأسباب واقعية على الأقل. ولتغطية هذا الإهمال تطل النزعات الاستبدادية، السياسية والإسلامية والاجتماعية، برأسها دون غضاضة!
يعيش في الشمال بضعة ملايين من السوريين الذين دفعوا أبهظ الأثمان للاحتجاجات التي انطلقت منذ أكثر من عقد. يقطن قرابة مليون منهم في مخيمات. ويعدّ مئات الآلاف منهم من «أولياء الدم» الذين فقدوا واحداً أو أكثر من أفراد عائلاتهم. لكن كل هذا لا يعني أنهم على موقف صائب بالضرورة. بل لعل الظروف غير الطبيعية التي يعيشها الكثيرون منهم، وتوالي طبقات الفقد والوجع والقهر، أن يكون سبباً أدعى لاتخاذهم مواقف حادة غير منطقية. ومهمة السوريين الذين يعيشون في أوضاع أكثر إنسانية أن يأخذوا على يد هذه الحدة، لا أن يعدّوها المعيار الذي يترسمونه والخط الذي يتبعونه.
قبل أن تقع الواقعة العامة المستمرة في سوريا كان سكانها، كما في كل مكان، يطوّقون الكوارث الفردية التي تحدث هنا وهناك بتهدئة أولياء الدم والحيلولة بينهم وبين ردات الفعل المندفعة التي تراودهم في الغالب. فقد يرغب شقيق الفقيد في النيل ممن يستطيع من عائلة القاتل أو عشيرته أو أبناء قريته بلا تمييز، وربما يميل أهله إلى حرب لا تبقي ولا تذر ومن دون حساب. غير أن دور الحلقات الأبعد عن مركز المصيبة، ممن هم من محيط القتيل نفسه، هو عقلنة ردات الفعل وضبطها في حدود العدالة والإمكانية والنتيجة المطلوبة.
لا يقول هذا إن الخارج على صواب طبعاً، لكنه يعني أن تبجيل الداخل ليس أمراً مسلماً به على طول الخط. وأن الإسهام في نقاش واقع الثورة ومستقبلها يجب أن يكون حقاً لجميع أبنائها، سواء أكانوا في برلين أم في إسطنبول أم في اعزاز، من دون تشاوف ربما تمارسه ربطات العنق، ولا تعالٍ قد يحاول فرضه التثقيل الثوري على الأرض وحمل السلاح.