ذكريات الثورة على الفيسبوك

نوفمبر 17, 2022

حسام جزماتي

مقالات

آذار هو شهر الذروة العاطفية لذاكرة الثورة السورية. ربما سبقته أسابيع قلقة من الأمل والترقب منذ اندلاع الربيع العربي وتمدده وتصاعده، وتتلوه أشهر باهرة مضطربة مختلطة المشاعر تمتد إلى نهاية 2011، وحتى 2012، قبل أن يتخامد النبل وينحسر السموّ وتصبح الثورة شأناً معتاداً، دموياً، وطريقاً طويلاً يبعث على الذعر، ثم تعقيدات إقليمية ودولية مدوّخة، وأفقاً غائماً لا تبدو له نهاية واضحة في متناول اليد.

لم ينتظر عدد وافر من السوريين، ليُنشئوا حساباً على موقع فيسبوك، قرار رفع الحظر الرسمي عنه في الثامن من شباط 2011، لكن أغلبهم قد فعل ذلك. فقد كانت سمعة الموقع، كصانع للثورات، قد سبقته إلى البلاد التي قال رئيسها إنها في منأى. وللتدليل على هذا الاطمئنان قرر إزالة الحجب، المفروض منذ أكثر من ثلاث سنوات، عن الفيسبوك (واليوتيوب)، تعبيراً عن الثقة الزائدة بنفسه وحكمه و«شعبه».

تحفل ذاكرة بروفايلات السوريين الثائرين بصور المشاعر الطازجة لتلك الأيام والشهور والسنين. منشورات متحمسة، محلّقة، متضامنة، معتدّة، متفائلة، متباهية، متفجعة، خرقاء، لكن ما يوحدها أنها صادقة. أسهمت في تكوينها ظروف مخاض الثورة وولادتها والدهشة الجذلى بانتشارها، من جهة أولى، وحداثة التعامل مع موقع تفاعلي سريع وعصري وملون، من جهة ثانية، وأخيراً حداثة أعمار أكثر مَن نقصده مِن مستخدميه المتمردين هؤلاء، إذ كانوا في أوائل عشريناتهم، غالباً، وهم ينظمون ويتظاهرون ويتراسلون ويرفعون المقاطع والصور ويكتبون المنشورات بروحية من يصنع العالم.

أما الآن، بعد عشر سنوات صعبة، عجاف سمان، مضرجات بالفقد والقسوة؛ فتقفز هذه الذكريات يومياً، كما يقترح الفيسبوك، وكأنها لشخص آخر، لا يكاد المرء يتعرف فيها إلى نفسه، غرارته وحسن ظنه بالآخرين وبالدنيا، وحتى بالنظام الذي لم يكن كثيرون يتخيلون أن يصل بالبلاد إلى هذه الدرجة البائسة من الدمار.

بين أشغال اليوم المعتادة والمملة يقفز الشاب الذي كنتَه في وجهك فجأة، ساذجاً نحيلاً بأحلام كبرى. يثير مشاعر ألم وابتسامة ساخرة من خفة الذات قبل أن تتعقل. وفي مواجهة هذا الشاهد الصغير، الكاشف ببراءته والموجع بمدى إخلاصه؛ يفضّل كثيرون ألا يشاهدوه على الإطلاق، في حين يقطع آخرون جزءاً منه كل يوم ويرمونه إلى النار، بحذف المنشورات إلى الأبد، فيما يُشهر فريق ثالث فضيحته على الملأ، مشاركاً المنشور مع ما يتيسر، اليوم، من توبيخ «واعٍ».

تشير الثغرات في تسلسل التعليقات إلى أصدقاء غابوا. طالتهم اليد المتغيرة لمعايير «مجتمع الفيسبوك»، أو حظرتهم من مجتمعك أو حظروك، ربما أردتهم الأيام أو قتلهم النظام وتولى أحد الأحياء مهمة دفن حسابهم. وهو خيار يبدو رحيماً بالقياس إلى الراحلين الذين لم تبق منهم، على جسدك/ حائطك الافتراضي، سوى تعليقات عابرة حكم عليها الموت بالتثبيت ومنحها صدى جليلاً يتردد على مسامعك متبلاً بالألم.

في الفيسبوك تسيل الحياة، وهو سجلها اليومي لأنه موقع التواصل الاجتماعي الأوسع. وإن التعاطي معه بوصفه مستودع الحكمة الشخصية ومعرض الصور الماجدة والذاكرة المهيبة هو ما يدفع إلى محاكمة الذات فيه بكل هذه القسوة، حذفاً وخجلاً وتنكيلاً ساخراً في منشور الاستعادة. فيما يجدر التعامل معه كمنزلة بين المنزلتين، درجة وسطى بين الكلام والكتابة، تحتمل كل ما سبق وصفه من انفعالات واضطراب وصعود وهبوط.

لكن الأمر أعمق من ذلك، وهو يتجاوز السخرية الصحية المرحة من الذات إلى تقريعها لأنها «تجرأت على الحلم»، وفق التعبير الشائع مؤخراً والذي أثار نقاشاً عريضاً في الشهر الماضي. ولا شك أن جلد الذات هنا يتضمن، أساساً، جلد الآخرين، الشركاء السابقين في الحلم والمحافظين الحاليين عليه، بوصفهم متعنتي 2021، ولم تعد تشفع لهم براءة البدايات وضعف التجربة.

والحق أن هؤلاء، «العنيدين»، لا يقدّمون نموذجاً مغرياً هو الآخر! يفتقر هؤلاء إلى ذكريات الحلم لأنهم ما زالوا سادرين فيه، ولأن حساباتهم الفيسبوكية تبدلت مراراً في أسباب وظروف ومشكلات مختلفة خلال هذه السنوات، ولأن وقتهم، المنفلش والضيق في آن واحد، لا يتسع للذكريات. فعليهم مهام يومية كثيرة، يتنقلون فيها من دعم حملة افتراضية لإحياء ذكرى الثورة هنا إلى حضور ندوة حوارية على الزووم هناك. وبين هذا وذاك تواصل لا ينتهي لتنظيم شلل الكواليس وجمع «المعلومات» عن «متسلقي الثورة»، تمهيداً للبث المسائي المباشر الذي لن يبقي ولا يذر، مغطى بالعلم الأخضر في الخلفية وبكمية سخية من لفافات التبغ وبمن تم التوافق معهم، مؤقتاً، من الضيوف «الأحرار»، في صخب يومي متواصل وغير مجدٍ إلا في تفريغ الأحقاد وتبادلها وتثميرها.

لم يؤد طول زمن الثورة، وامتدادها على عقد ما يزال مفتوحاً؛ إلى خراب البلاد فحسب. فللأمل عمر افتراضي وتاريخ انتهاء صلاحية كما يبدو. وعندما يتجاوزهما، مع استنفاد كل إمكانات التمديد المتاحة، وينضج ويهترئ؛ قد ينقلب إلى سمّ خطر ربما يودي بروح صاحبه وصحته النفسية، وربما سلامته العقلية.

المصـــدر

المزيد
من المقالات