بالتوازي مع الخسارات المتتالية التي عرفتها القوى المعارضة المسلحة خلال السنوات الثلاث الماضية في مساحات واسعة من الأرض السورية، وبعد استعصاء الانتقال السياسي وضبابية أفقه؛ أخذ مزاج المراجعات وعقليتها بالتصاعد في أوساط الفاعلين الثوريين الذين قذفت بهم العاصفة الحربية النابذة إلى الشمال، مقتلَعين من مناطقهم، أو إلى قوس إقليمي أوسع وخاصة في تركيا، وأخيراً إلى المَهاجر الأوروبية حيث يعانون درجات أعلى من الهامشية وضعف التأثير.
ينضوي تحت هذا الوصف قادة عسكريون مهزومون، وناشطون مدنيون قدموا لهم الغطاء عبر مكاتب سياسية للفصيل أو العمل في كنفه وبالتنسيق العضوي معه، كما يشمل كفاءات عملت في المجالس المحلية الناشئة أو في منظمات إغاثية وصحية وتربوية وإخبارية، وإعلاميين مستقلين ومنظّمي مظاهرات وأعضاء مجالس أحياء وتجمعات مختلفة المهام يصعب حصرها. وعلى اختلاف كل هؤلاء إلا أن ما كان يجمع بينهم هو الانخراط الشديد في دوامة الثورة إلى الحد الذي لم يترك لهم، في السابق، وقتاً كافياً للتفكير والتأمل، لا سيما مع ظروف القصف والحصار والاستجابة الطارئة التي عاشوا في ظلها.
عاني معظم هؤلاء، الآن، من وطأة الانتقال من الانشغال المفرط إلى شبه فراغ، فضلاً عما يغالبونه من آثار الانكسار والتهجير. فيقع العديدون فريسة الاكتئاب، ويتساءل البعض بعمق عن عدالة العالم، ويفرّغ الكثيرون غضبهم بتشغيل مقصلة ميدانية في وسائل التواصل الاجتماعي، فيما يعمد آخرون إلى مراجعة التجربة بهدف الإجابة عن أسئلة من نوع: أين أخطأنا؟ ولماذا وصلت الأمور إلى هذه النتائج؟
من جهة المبدأ لا يمكن لأحد أن ينتقد المراجعات أو أن يقلل من أهميتها وجدواها، ولا سيما في حالة بعض القادة العسكريين الذين أسكرتهم السلطة الطارئة التي حازوها، كما في حالة بعض أذرعهم المدنية التي بررت لهم الطغيان على الأهالي. غير أن ما تمكن ملاحظته هو انزياح المراجعات عن مهمتها الحميدة، وهي وظيفة عقلية باردة بالأصل، إلى أن تصبح باباً لأنواع من جلد الذات الفردية أو الجماعية وتسويغ الإحباط.
من المؤشرات على هذا التحول المخادع هو أن المراجعات المزعومة لم تصل إلى نتائج رغم استغراقها وقتاً طويلاً معظم الأحيان، وأنها تعبّر عن نفسها بلغة ساخرة سوداء قانطة، فضلاً عن أن أخطاء الثوار ليست بذلك الخفاء، وهي معروفة منذ كان المراجعون «على سروج خيلهم»، ويمكن تحديد أبرزها بسهولة خلال دقائق، وهي إعجاب كل ذي رأي برأيه، وكل أهل فصيل بتوجههم، والعجز عن العمل الجبهوي إن لم نقل عن الاندماج، بل الانزلاق إلى الصدام المسلّح الذي هو خط أحمر صارخ. فإن أضفنا إلى ذلك إمساك المسلحين بالسلطات وتهميش الناشطين المحليين، وإرهاق السكان بمفاعيل الفوضى والارتجال والتنمّر، وضعف الاستجابة والانسجام مع الكيانات المعارضة الكبرى بل السعي إلى إفشالها؛ أمكننا أن نرسم أبرز معالم الأخطاء. دون حاجة إلى إدمان الغوص في الذات وتقليب الذكريات وإطلاق صفة التأمل على أعراض التسمم الذاتي هذه.
أمر آخر يدل على خطل «المراجعات» هو إغفالها التام لأثر موازين القوى التي شهدت اختلالاً واضحاً لمصلحة النظام مع زيادة انخراط إيران وأذرعها الشرسة ثم التدخل الروسي. لا شك أن طرف الثورة كان سيصبح أمتن وأقوى وأشد تمثيلاً إن خلا من الأخطاء الأساسية المشار إليها، وسواها بالطبع، لكن، على كل حال، من الصعب تصور انتصار أو صمود مقاتلين أهليين طوعيين غير محترفين في وجه ترسانة متكاملة من الأسلحة الثقيلة، بما فيها الطائرات.
يُغفل المراجعون هذا ويتركونه ليكون متن خطاب نوع آخر من القادة الذين ما زالوا يتصدرون المشهد بشكل أو بآخر. ففي مقابل المونولوج الحزين الطويل للمراجعات لا يشعر الفاعلون الحاليون بالحاجة إلى نقد الذات بأي طريقة. ربما انتقدوا أطرافاً أخرى منافِسة في صف الثورة، أو ركّزوا على خلل ميزان القوى من الناحيتين العسكرية والسياسية. أما هم فقد فعلوا الصحيح، ولا يساورهم الشعور بالذنب عن أدوارهم… حتى الآن.
تحت هذا التصنيف يمكن إدراج أبو عمشة، قائد لواء السلطان سليمان شاه، وأبو محمد الجولاني، أمير هيئة تحرير الشام، ونصر الحريري، رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، على ما بينهم من اختلافات كبيرة وتباين.
المراجعة فعل صحي محدود. فإن خرج عن وظيفته صار غولاً ينهش صاحبه من الداخل أو يمد رأسه خارجاً لافتراس الشركاء. وكثيراً ما كانت المراجعات مدخلاً زلقاً للتراجعات، كما قال الكثير من الذين حذروا منها في تجارب تاريخية عديدة ومجالات مختلفة. ولذلك يجب تعاطيها بانتباه، وتفتيش عباءتها الواسعة بحثاً عن مشاعر متسللة من قبيل الندم المُشل والانكفاء والبحث عن الخلاص الفردي.