تراجعتُ لأكون في مؤخرة المظاهرة كي أستطيع أن أصوّر قبل أن يبدأ هجوم الأمن والشبيحة. الأعداد بدأت بالتزايد على نحو كبير لنصل إلى أكثر من مئتي شخص خلال ثوان معدودة. وبدأ الصوت يهز الجامعة:
«الله، سورية، حرية وبس».
بدأت بتسجيل الفيديو لأفاجأ بشخص يهجم عليّ من الخلف ويمسكني من ذراعي بشدة ويصرخ:
«طب الموبايل، طب الموبايل»!
في كتابه «هذه ثورتي» يقدّم محمد جلال يوميات الاحتجاجات في مدينة حلب كما شارك فيها منذ البداية. تأتي أهمية هذا النوع من الشهادات من أنها مادة خام لتوثيق الأحداث وحفظها ودراستها. وتنبع متعتها من حرارة الصدق البادية في الوصف التسجيلي للوقائع، والمشاعر المصاحبة لها، ورصد تطور وعي ثلة من الشباب الجامعيين ومحيطهم.
حين اندلعت الثورة كان «بطل» هذه اليوميات طالباً في كلية الحقوق، وموظفاً بدوام ليلي في إحدى الدوائر الحكومية. كان متأقلماً مع وضع البلد الفاسد كما أورثه إياه الأهل الذين أرضعوا أبناءهم الذل والخوف، لكن بارقة الربيع العربي أشعلت في صدره ما لم يكن يألفه من قبل، رغبة عارمة في الحلم والتمرد أخذ يشاركها مع قلة مقرّبة من الأصدقاء.
كانت التجربة الأولى للثلة على الحرية في الجامع الأموي الكبير، يوم 25 آذار 2011 الذي أطلق عليه اسم «جمعة العزة». ورغم أن محاولة التظاهر
هذه أجهضت بسرعة إلا أنها خلفت لدى الكاتب نشوة لا توصف، بالإضافة إلى تسجيل فيديو بدا غنيمة ثمينة رغم أنه لم يتجاوز نصف دقيقة. وكان نشره معضلة حقيقية مع ضعف الخبرة والخوف من الرقابة، لكن مشاهدته على القنوات أخيراً كانت مكافأة كبيرة.
تملكت الثورة قلب محمد ورفاقه. كانوا كمن يعيش قصة حبه الأولى. وصار البحث عن المظاهرات هاجساً يومياً. وكان هذا محبِطاً في مدينة غصّت بصور رموز النظام وعلَمه في مختلف الأماكن العامة والخاصة وعلى السيارات، وخرجت الكثير من مسيراتها عفوياً، مما أدخل اليأس في نفوس الشباب المتحمس للثورة الذين وجدوا ضالتهم في احتجاجات الجامعة التي تركز فيها الحراك، حتى امتدت المظاهرات بالتدريج إلى أحياء باب الحديد وصلاح الدين وسيف الدولة وطريق الباب وسواها، وإن لم تصل أبداً إلى زخم المظاهرات العملاقة الموازية في مدن أخرى. كان حراك حلب يأتي متأخراً على الدوام، ويظهر هزيلاً بالمقارنة مع سواه، رغم الجهود الكبيرة التي بذلها الناشطون لاستنهاض السكان وتحريضهم.
لم يكن هذا الحماس ليمر دون إثارة الشبهات التي أدت إلى استدعاء محمد وأحد زملائه في العمل إلى الفرقة الحزبية. ورغم انضمام عنصر في جهاز أمن الدولة إلى الجلسة إلا أن ذلك لم يكن مقلقاً للشاب بقدر معرفته أن أمين الفرقة صديق لأحد أقاربه، مما يعني أن ما جرى سيصل إلى والده الذي كان يراقب بقلق شديد وعدم رضا انخراط ولديه في هذا «العلاك» الذي كان، بالنسبة إليه، لعباً مع الشيطان لن تقتصر عواقبه على مرتكبيه بل ستمتد إلى أسرهم وأقاربهم، كما حدث في الثمانينات وعهود الرعب اللاحقة.
والحق أن تلك المخاوف لن تتأخر كثيراً. إذ سيُعتقل زكريا، ابن عم المؤلف، في إحدى مظاهرات «بركان حلب» في نهاية حزيران. وسيثير ذلك صدمة في العائلة والقرية التي تنحدر منها. إذ إن والد زكريا عميد طيار، وفرع العائلة هذا يعمل معظم أفراده في «الدولة»، فكيف يجرؤ أبناؤهم على معارضتها؟!!
سيخرج ابن العم بعد مدة قصيرة، ليصبح بطلاً في نظر الشبان الثائرين من العائلة، رغم أنهم سيتعرضون للتضييق الشديد من أهاليهم الذين لم يرغبوا أن يصبحوا في وضع العميد الذي استدعي، بسبب ابنه، إلى فرع المخابرات الجوية وصار من الضباط المشكوك في أمرهم.
سيطال الاعتقال محمد، كاتب يومياتنا، في آب/ رمضان من العام نفسه. وهنا ستتاح له الفرصة لوصف الاستجواب وتفتيش الكمبيوتر في فرع الأمن العسكري، ثم الاحتجاز وسط زحام المعتقلين في فرع الأمن الجنائي لإعادة التحقيق بالاستناد إلى ما كان قد نشره على صفحته على فيسبوك، وأخيراً الإيداع في سجن حلب المركزي بالمسلمية. وتسمح هذه التنقلات للمؤلف بتقديم صور غنية ومتنوعة عن معتقلي التظاهر من حلب وريفها ومن صودف وجوده من المحافظات الأخرى، وطرق التعامل معهم، وإجراءات التقاضي التي كانت روتينية وسهلة العواقب بالقياس إلى ما هو معروف عن النظام قبل ذلك وبعده.
إثر شهر من الاعتقال خرج محمد واستأنف حياته السابقة بسرعة. لكنه لم يشارك في أي نشاط ثوري لمدة طويلة، نتيجة مزيج من الخوف والرغبة في استعادة ثقة والده المفقودة، مع استمراره في متابعة أخبار الثورة التي كانت تتحول إلى مسلحة كتطور حتمي فرضته الظروف في أماكن مختلفة من البلاد، بعد أن كان هذا الخيار مرفوضاً لدى معظم الثوار في البداية.
أما حلب فوجدها على حالها السابق الذي لم يشعر بالتغير، بحسب الكاتب، إلا مع الأشهر الأولى من عام 2012، عندما أخذت المظاهرات زخماً جديداً، ولا سيما في مناسبات تشييع شهداء المظاهرات السلمية، بالتوازي مع حراك يومي متعدد المواقع في الجامعة لم تستطع قوات الأمن أن تقف في طريقه. بدا واضحاً أن «بركان حلب» سينفجر في وجه النظام أخيراً، ولو بعد سنة من موعده. لكن هذا الحراك السلمي المتنامي لم يُغطّ إعلامياً بالدرجة الكافية بعد أن كانت مدن ومناطق أخرى صارت على خط النار والقصف والمواجهات، التي ستصل إلى حلب نفسها مع دخول الجيش الحر إليها منتصف ذلك العام.
لا يبدو الكاتب ممتناً كثيراً لعسكر الثورة، منذ استيلاء ثلاثة مسلحين على سيارة عمه العميد وبطاقته كضابط ومسدسه الحربي، إلى خطف العم ذاته لحمله على الانشقاق أو دفع فدية، مروراً باغتيال عميد آخر في الطريق، هو والد أحد رفاقه من أفراد المجموعة المعارضة للنظام والمتعاطفة مع الجيش الحر. في اليوم نفسه سيخرج محمد جلال من تعزية ابن العميد لمواساة صديق مشترك كان شقيقه قد وجد للتو مقتولاً على يد الأمن أو الشبيحة، وعلى جسده آثار تعذيب وحشي.
أما على صعيد حلب فيرى الكتاب أن تأثير الدخول العسكري إلى أحيائها كان كارثياً، لأنه استبق تطوراً كانت المدينة في طور خوضه كي تثور بالكامل خلال أشهر قليلة، وتنتفض ضد السلطة بعد أن تمرّ بكافة المراحل الثورية وتأخذ وقتها حتى تصل إلى الكفاح المسلح، لئلا تبدو عملية تحريرها وكأنها احتلال لإحدى قواعد النظام، خاصة وأنها جرت على يد مقاتلين غالبيتهم العظمى من خارج المدينة.
تختلف وجهات النظر، وهذا طبيعي. ومن المستحيل، تقريباً، التكهن الجاد في مآل الاحتمالات الأخرى للأحداث العاصفة. غير أن المؤكد هو أن هذا الكتاب شهادة موسعة وهامة ودقيقة يجب أن ترفدها عشرات الشهادات التي ستشكل معاً، بتقاطعها ومقارنتها وتكاملها، الصورة الأقرب للتاريخ الحقيقي.