علم الاستقلال السوري.. معركة الرمز المتجذر في التاريخ والحاضر

نوفمبر 17, 2022

محمد السكري

مقالات

لم يفرط النظام السوري خلال سنوات حكمه بفرصة الاستثمار في رموز الدولة السورية، لتثبيت حكمه، مع تصرفه بتلك الرموز بالطريقة التي يراها تخدم استدامة نظامه، فاستبدل علم الدولة عدة مرات في حين أبقى على نشيد “حماة الديار” خلال فترة حكمه كما احتفى بشكل مستمر بأول علم للجمهورية السورية وهو الذي يُسمى اليوم “علم الثورة”.

هذا الاحتفاء لم يكن بالضرورة يعبر عن حالة إيمانه بضرورة وجود لرموز للدولة بقدر تكريس سلطته الشمولية عبر بعض المراوغات في رموز وثوابت وطنية، ولا سيما في علم الاستقلال من خلال استخدامه على الطوابع الرسمية وعرضه أثناء الاحتفالات الوطنية وخاصةً بعيد الجلاء والاستقلال عن فرنسا، كذلك استخدامه بشكل كبير في الأعمال السورية الدرامية، واللوحات التاريخية التراثية فمثلاً؛ ما زال علم الثورة السورية لحد هذه اللحظة مرسوماً على جدران جامعة حلب عند مدخل الجامعة في لوحة تعبر عن جلاء سوريا.

لكن، تغيّر كل شيء خلال الثورة السورية بعدما قرر الشعب السوري الثائر استعادة رموزه من عبث الاستبداد، واعتماده لعلم الاستقلال رمزاً وطنياً وثورياً وليعلن على أنَّه “علم الثورة السورية” بعدما كان خلال فترة ما قبل الجلاء علم الجمهورية السورية الأولى ثم علم الاستقلال والدولة هذا المبرر كان كافياً ليبدأ النظام السوري حربه الإعلامية والدعائية ضد رموز قرر الشعب السوري استعادتها، من خلال الاتهامات الدعائية بأنَّ هذا العلم هو علم الانتداب الفرنسي وعمل بشكل دؤوب لإقناع من يؤيده بهذه السردية خِشيةً من امتلاك الشعب السوري الثائر رمزاً وطنياً بكون ذلك يشكل تهديداً على السلطة ما يعني أنَّ النظام كان يدرك منذ البداية خطر معركة الرموز ويحسب لها حسابات كبيرة، قدم سرديته ولكن التاريخ له كلمة أخرى.

لو كان هذا العلم “علم الانتداب” لرُفض في مرحلة ما بعد الاستقلال حيث استمر العلم علماً للجمهورية حتى عام 1958 أي لمدة 12 عاماً بعد الاستقلال، ولو لم يحمل رمزية كبيرة ووطنية لرُفض استعادته بعد الانفصال عن دولة الوحدة مع مصر عام 1961 وأخيراً لرفضه الشعب السوري رمزاً لثورتهم فيما لو كان لديهم أدنى شك به.

لقد مرّت 10 سنوات على لحظة الانعتاق من الاستبداد، خلال هذه الفترة الطويلة اندفع الشعب السوري للدفاع عن رموزه بكل وطنية، حالة غابت عن سوريا والمواطن السوري لعقود من الزمن، يُقال إنَّ الرموز تصنع الوطن، لذلك يدرك الثائر السوري أهمية رمز الثورة وبالفعل يبدو أنَّ الشعب السوري بدأ يتمسك برمز علم الثورة السورية أكثر من أيّ وقت سبق.

في الحقيقة، هذا العلم يعبّر عن وصلة وطنية بين نضال الماضي وتضحيات الحاضر إذ يعود تاريخه لعام 1930 بعدما تم إقراره في دستور الجمهورية السورية الأولى من قبل الجمعية التأسيسية التي كان يُشرف عليها شخصيات وطنية سورية لها حضورها في وجدان المواطن السوري أمثال “إبراهيم هنانو” و”فوزي الغزي” و”هاشم الأتاسي” ورُفع بشكل رسمي عند انتخاب أول رئيس لسوريا “محمد علي العابد” في عام 1932 وذلك خلال مراسيم تدشين الرئاسة.

استمر يمثل آباء سوريا على مدار ثلاثة عقود إلى أن جاء البعث بانقلاب عسكري في عام 1963 مع استثناء فترة الوحدة بين سوريا ومصر 1985-1961 وما إن بدأت الثورة السورية حتى استعاد الشعب السوري العلم بمّا يحمله من رمزية كبيرة على الصعيد الوطني، ولا سيما وأنّه يعتبر تجسيداً لحالة القطيعة مع الاستبداد بشكل كامل ومحاولة لاستعادة أمجاد الجمهورية السورية الأولى التي سادها النضال ضد الاحتلال الفرنسي والحياة السياسية المزدهرة والحضارية ومن ثم بناء الدولة التي اتسمت بمفاهيم الحرية والعدالة رغم عدم الاستقرار الذي كانت تعاني منه سوريا آنذاك التي بلا شك لا يمكن مقارنتها باستبداد منظومة الأسد التي خلقت أزمة هوية لدى المواطن السوري وهذا بطبيعة الحال ما تفرضه منهجيات الاستبداد “الطاعة” للقائد بدلاً من الوطن. لذلك، كان من الطبيعي أن يُعاني المواطن السوري من هذه الأزمة، وإلّا سيكون هناك تهديد مستمر للسلطة لأنَّ الرموز ليست فقط حالة مشاعرية وإنما أدوات دولة فهي تفرض نموذج دولة تقوم أسسها على المواطنة أو الشراكة والتي تحتاج لمشتركات مثل الرمز كالعلم وهذا ما حقّقه علم الاستقلال السوري على الأقل وسط شريحة المعارضة السورية.

يرى الشعب السوري في هذا العلم تجسيداً لتاريخهم النضالي ضد الاحتلال ولاحقاً ضد الاستبداد بعد الثورة السورية، حتى أطلق عليه في إحدى اللافتات التي رفعت خلال تظاهرة “علم الاستقلال والثورة” ففي الأولى إشارة إلى الاستقلال عن فرنسا عام 1946 والثانية مساعي الاستقلال عن نظام الأسد بالتالي يعتبر أنصار الثورة هذا العلم رمز هويتهم السورية المتجذرة في أعماق التاريخ والحاضر ولا سيما وأنّ الكثير من شهداء سوريا أثناء الثورة كفنوا به في مراسيم التشييع والدفن.

شكّل علم الاستقلال والثورة خلال السنوات الماضية ماهية الهوية السورية المستحضرة من أعماق التاريخ السوري، وارتبط بتضحيات السوريين وسرديتهم في التظاهرات السليمة والتهجير القسري وحربهم المسلحة وصراعهم ونضالهم السياسي والمدني.

هذه الراية السورية الأصيلة، والتي ترفع في كل مكان؛ فوق خيمة اللجوء والنزوح، وعلى عربات التهجير التي يقودها المُهجر خلال رحلته للبحث عن موطن جديد ليمكث به، وفي بيت سوري مهجر يترقب تبلور الحل السياسي لكي يعود ويرفعه في الحي الذي ولد به وسلبه الاستبداد منه، وعلى أكتاف طالب سوري تخرج حديثاً في المغترب، ليست حالة طارئة مرتبطة بالثورة والفوضى وإنما هي حالة متجذرة في أعماق التاريخ فقبل أن يكون علم الثورة كان علم الاستقلال والدولة، لذلك هو تعبير عن حلم بناء الدولة الوطنية التي تعكس إرادة الشعب السوري والعلم إحدى تجليات تلك الدولة.

إنَّ النجوم التي تشير تاريخياً إلى وحدة سوريا التي قسّمها الانتداب واستعادها نضال آباء سوريا في استقلالهم الأول، باتت ترمز اليوم لمساعي الشعب السوري لاستعادة سوريا من الاستبداد وإعادتها لمكانها الطبيعي ضمن الدول المتحضرة والمتقدمة.

المصـــدر

المزيد
من المقالات