الحق السوري في مفاعيل ضعفنا والزمن

نوفمبر 17, 2022

مضر رياض الدبس

مقالات

يثير الكلام في الحق السوري أفكاراً كثيرة، لا إلى جهة تحديده وتبيينه، فهو واضحٌ وبيِّن، بل لأنه يثير السؤالين الأهم عن إحقاقه: سؤالٌ عن الزمن، وآخر عن الآلية (متى وكيف). ويبدو أن إجابات السؤال الأول مرتبطة بصورة وثيقة بنوعية الإجابات عن السؤال الثاني، لأن زمن إحقاق الحق يرتبط بصورة وثيقة بالكيفية التي بموجبها يتم العمل على إحقاقه.

ويمكن أن نقول إن اعتقاداً ساد في بدايات الثورة مفاده أن هذه الكيفية مسألةٌ تحيل على الخارج أكثر من الداخل، كأن تنفذ الولايات المتحدة عملية عسكرية يسقط بعدها الأسد – مثل سقوط القذافي مثلاً؛ ولذلك كانت أغلبية إجابات السياسيين عن سؤال الزمن تميل إلى القول إنه زمنٌ قصير: مسألة أشهر قليلة، وكان لمثل هذه المقاربات تبعات مؤلمة.

واليوم، بعد عشر سنوات، لم يبقَ إلا جواباً واحداً مُمكناً للحفاظ على الحد الأدنى من رصيد التفاؤل السياسي اللازم لاستمرار الثورة، وهو جوابٌ نظري محض، يشبه الجواب الذي قدمه رياض حجاب في حديثه الأخير لتلفزيون سوريا حين قال: “مهما طال الزمن، بالتأكيد الحق سيأخذ مجراه، وبشار الأسد مكانه خلف القضبان في لاهاي وليس في القصر الجمهوري في دمشق”. يتضمن هذا الجواب قراءة صحيحة بالمعنى النظري والأخلاقي، وهو أيضاً جوابٌ مرتبط بسؤال الـ “كيف”، الذي صار اليوم في ما يبدو أكثر نضجاً وأعمق فهماً، فصارت شريحةٌ أوسع تحيله على الفاعل في ميدان إحقاق الحق، أي على السوريين أصحاب الحق مُمثلين بكتلةٍ وطنية تتبنى إرادتهم العامة وتعكسها، وفي غياب هذه الكتلة الوطنية، وإخفاق السوريين إلى الآن في تعيينها، يصير تحديد زمن إحقاق الحق نظرياً فحسب.

الواقع يقول إن هذا الفاعل “مُترهل” ويعاني من “ضعف في الأداء” – بتعبيرات حجاب عندما سألته المحاورة عن رأيه في المعارضة في المقابلة نفسها – وبتقديرنا ما كان حجاب، أو أي رجل سياسي وطني، في حاجة إلى التنظير لمفهوم الحق، وصولاً إلى القول بأنه قادمٌ “مهما طال الزمن”، لو أن لهذا الحق قوة سياسية واضحة تمتلك فاعليةً حقيقيةً مُوجهةً إلى إحقاقه؛ وما كان للتنظير المحض أي داعٍ، لولا استشعار ضعف قوة هذا الحق اللازمة لإحقاقه. ثم إن مشروعيةً من النوع الفلسفي تعيش في الربط بين زمن إحقاق الحق ومعنى هذا الإحقاق، وهي مشروعية تنتمي بمجملها إلى نوعية العدالة الانتقالية الضرورية لكينونة سوريا بوصفها وطناً.

في الأحوال كلها، نرى أن السؤال الأهم الذي يمكن أن يصل إليه هذا التفكير هو: كيف تعمل السياسة لتقصير مدة إحقاق الحق السوري، أو لتقصير المدة اللازمة لـ “يأخذ الحق السوري مجراه” – بتعبيرات رياض حجاب – وبصيغة أخرى: كيف ننتقل من حالة حق القوة الهمجية المتمادية إلى حالة قوة الحق الإنسانية السورية؟

الإجابة عن هذا السؤال كونية في جوهرها، يُفكر فيها السوريون نيابةً عن الإنسانية كلها؛ ففي أبسط التقديرات، يمكن أن نقول إن وصول بشار الأسد إلى محكمة غير صورية، تحكم بأن مكانه خلف القضبان، لا يعني أن الثورة السورية أزالت العقبة الأساسية من عقبات تقدم الإنسان السوري فحسب، بل يعني أيضاً أن الإنسانية تراكم مكتسباً جديداً إلى رصيد مكتسباتها الأخلاقية.

لذلك نقول مبدئياً إن في هذا النوع من التفكير السياسي فضلٌ وفضيلة: فضلٌ للسوريين على العالم كله، وفضيلة السوريين في أن يصيروا كونيين، فيقاربوا مشروعهم الوطني بدلالة انتمائهم الإنساني. وبتقديرنا يقتضي هذا كله وضع الحق السوري في مقارباتٍ جديدة من حيث الفهم والمفهومية. ولإثارة الحوار في هذه المقاربات بصورة عمومية، نضع الطرح الآتي بتكثيفٍ ملائم، ونسميه “تكوين السلطة التواصلية السورية”، وفيه النقاط السبع الآتية:

1) صحيح أن الحق السوري بينٌ وواضح، ولكن إحقاقه مفهوم سياسي بالعموم، يحتاج إلى بناء قوة الحق، وهي بالضرورة قوة سياسية، والقوة العسكرية هي إحدى مصادر قوة السياسة وينبغي أن تتبع للسياسة وتُدار من قبلها.

2) تنتج قوة الحق بصورةٍ مؤسسةٍ على المناقشة والحوار، وتجد هذه القوة أساسها الصحيح في الحوار العمومي حول معايير السياسة اللازمة لإحقاق الحق، فتكون هذه القوة ثمرة الاتفاق والنقاشات العقلانية الموسعة والمسؤولة، وثمرة للتواضع والهدوء والاتزان وصولاً إلى الاتفاقات الكبرى، أي إن هذه القوة، بتعبير آخر، هي ثمرة إرادة السوريين العامة، وفي غياب هذه الإرادة، لن يكون لحقهم قوة.

3) تتكوَّن الإرادة العامة في فضاء سوري عمومي، يحتضن النقاشات ويبلورها ويطورها، ويستند إلى العقلانية التواصلية. والعقلانية التواصلية أداة حوار عصري يعترف بالآخر بوصفه ذات لها كرامة، وهي أيضاً أداةُ تنظيمٍ سياسي وطريقٌ إلى الديمقراطية السورية، لأن الحوار الموسع العمومي سيراكم بالضرورة رأس مال اجتماعي وطني سوري له قدرة عجيبة على بناء القوة السياسية الوطنية السورية التي يحتضنها الفضاء العمومي.

4) ينبغي أن ندخل إلى الفضاء العمومي بوصفنا أفرادا سوريين لهم رأيهم الحر، بعبارة أخرى: ينبغي أن نخلع جماعاتنا العصبوية على عتبة الفضاء العمومي، ونبتكر حميمية وطنية تستند إلى مفهوم الفرد؛ فنستقوي بالثورة على الطائفة والقبيلة والإثنية والعرق والإيديولوجيات المهترئة، ونستقوي بالانتماء الوطني على أي قوة تمارسها الجماعات لسحق الفرد والتأثير في رأيه من منظور تبعيته لها.

5) إبداع جماعات جديدة في الفضاء العمومي على أسس مدينية، واعتبارات جمالية وطوعية تستند إلى حرية الفرد في الاختيار، وتكون نواة لمجتمع مدني سوري حقيقي، (ومن ثم مجتمع سياسي بطبيعة الحال).

6) الجماعات المدينية التي تقوم على أساس احترام الفرد، والتي تعترف به وبرأيه، فلا تصهره ولا تسعى إلى تنميطه، هي جماعات وطنية، وهي المادة الأولية لقوة الحق السوري، لأنها ستكون قابلة للحوار السلمي ولمراكمة رأس مال اجتماعي وطني، ويكون لها سلطة حقيقية لفرض إرادتها الحرة على الجميع (بما فيهم الدول الكبرى والإقليمية)، ولأن هذه الجماعات تستند إلى الحوار في الفضاء العمومي، وتؤسس نفسها عليها، فإن سلطتها مجتمعةً ووحدة تجاه إراداتها في لحظة معينة هي التي نسميها السلطة التواصلية السورية.

7) تعمل السلطة التواصلية السورية على تجاوز ضعف السياسة الوطنية، وتعمل على إنهاء محاور الضعف الأساسية التي حدد حجاب بعضها في هذا اللقاء نفسه في الآتي: ضعف ثقة السوريين بالمعارضة الناتج من غياب التواصل، وغياب الفاعلية على المستويين الإقليمي والدولي، وغياب المبادرة، بالإضافة إلى فخ المحاصصة. ويبدو أن وجود سلطة سورية تواصلية سيكون كافيا لتجاوز هذا الضعف، وتسليح الحق السوري بالقوة اللازمة لتحقيق العدالة بأسرع زمنٍ ممكن، والعدالة هي تعيين الحق في الواقع.

وأخيراً، لا يكتمل التفكير في مسألة الحق في هذا الزمان من دون التطرق إلى الحق الفلسطيني، وصحيحٌ أن له مقارباته ومعطياته الخاصة، إلا أننا نرى بصورةٍ عامة أن فكرة السلطة التواصلية الفلسطينية أيضاً فكرة صالحة لمقاربة كيفية إحقاق الحق الفلسطيني وتحديد زمنه، ومن ثم يمكن إسقاط النقاط السبع السابقة في فهم ومقاربة الحق الفلسطيني بصورةٍ عامة.

المصـــدر

المزيد
من المقالات