أخيراً انتصرتُ واستطعتُ الحصول على غرفة الحارس في مزرعتي، لم يبقَ سوى جانب من السور والحديقة ليكمل الانتصار.
هكذا تتوالى الانتصارات الوهمية التي تحرزها السلطة في سوريا. تعيد الاستيلاء على بعض من الأراضي السورية التي ينبغي أن تكون كلها في حمايتها من أي اعتداء خارجي.
لا أدري كيف يمكن للإنسان الشعور بالطمأنينة وكل أنواع الحشرات والحيوانات تعبث في داره.
أشرطة الكهرباء مبعثرة، صنابير المياه مختلة، المجاري مسدودة، كلاب الجيران تقبع خلف الباب بعوائها الشرس، القطط تتصارع في شرفة المنزل، الغربان تحوم في سقف الغرفة؛ هذه هي حال سوريا الآن، فوضى عارمة، وغياب لأبسط متطلبات الحياة الآدمية؛ ومع ذلك ما يزال الإعلام السوري الرسمي يتغنّى ببطولات حكومته التي تصمد في مواجهة المؤامرة الكونية التي تستهدف ممانعته.
عندما انطلقت الثورة، حرّر الثوّار ثلاثة أرباع الأراضي السورية من سلطة دمشق الجائرة، ومع دخول المرتزقة من حزب الله والميليشيات الطائفية وجيوش الدول الموالية التي تهافتت تباعاً لإنقاذ طاغية الشام؛ أُجبر الجيش الحر على التخلّي عن أجزاء من الأراضي المحرّرة، وهذا ما عدّه الموالون لنظام الأسد، انتصاراً ساحقاً على من سموهم العصابات المسلحة.
لم يكن في يوم من الأيام همّي إحصاء النقاط التي يسيطر عليها الثوار، لأن الثورة ليست جزئية تكتفي بتحرير بعض المناطق، إنها ثورة سوريّة، بمعنى أن سوريا بجغرافيتها الكاملة هي الهدف من التحرير، بحيث تعود للدولة هيبتها بعد أن تتمتع بحكم ديمقراطي ينبذ الطائفية والمحلية والمناطقية والمحاصصة الحزبية والفئوية بأشكالها كلها.
منذ بداية الثورة، تحرّكتُ مع عدد من المخلصين المحبّين لوطن حرّ، على جميع الأصعدة الممكنة. تابعنا المظاهرات وحاولنا تنظيم بعضها، وشكّلنا تنسيقية في حلب. ولم يكتفِ معظمنا بالعمل مع جهة واحدة لضرورات أمنية، فتشعّبت مهامّنا، ولم يخلُ الأمر من تشكيك ثوار بآخرين إلى أن توضّحت الصورة بسلسلة اعتقالات طالت معظمنا.
بعد أن طال أمد النظام الجائر من خلال الدعم الخارجي الذي تلقّاه من إيران وروسيا والصين، وصمت المجتمع الدولي وتغاضيه عمّا يحدث، وخوف معظم الدول العربية من نجاح الثورة خشية أن يمتد الربيع العربي إليها؛ تم قتل بعضنا تحت التعذيب أو بطرق الاغتيال، من السلطة أو من بعض الكتائب المتشدّدة التي كان بعض العاملين فيها من دسائس السلطة، أو ممن غُرّر بهم تحت راية الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة.
وعملت السلطة على تنمية حقدٍ قديم تجذّر لدى بعض السذّج بين أبناء الريف وأبناء المدينة، ما أدى إلى تصرّفات ضرّت الثورة التي بدأت تتعثّر حين التحق بها عدد من اللصوص والمجرمين بغية الانتفاع ، إمّا من الأموال المتدفقة من الدول أو من المغتربين، أو من السطو على بعض المصانع والدور.
وسط هذا الخضمّ حاول الباقون منّا تصحيح مسار الثورة من خلال إنشاء تجمّعات صافية في المناطق المحرّرة، أيضاً لم تخلُ من التشكيك من أطراف مختلفة، بالإضافة إلى اصطدامهم مع متشدّدين لا يفقهون جوهر الدين. وحاول آخرون العمل في المناطق التي لجؤوا إليها من خلال التنسيقيات الاغترابية، أو الروابط المختلفة دعماً للداخل.
ولأن المجتمع الدولي لم يتّخذ موقفاً صافياً من الثورة، لم ينجح المجلس الوطني في تشكيل قوّة معارضة موحّدة، وسقطت هيئة التنسيق في حفرة التخاذل. وبعد أن وضع الناس أملهم في الائتلاف، عادوا بخيبة أمل بعد أن اكتشف معاذ الخطيب عوامل التفشيل الدولية، فآثر الانسحاب، ولم يتمكّن الائتلاف من تشكيل حكومة مؤقّتة.
وسط هذا كلّه بات من الخطر على الثوار الذين بدأت الثورة بهم أن يتابعوا العمل في هذه المعمعة، وبخاصّة أنهم وزّعوا طاقاتهم على أعمال متنوّعة تتعلّق بالإغاثة والدعم المالي والطبي والتظاهر والعمل الإعلامي والتوعية وحمل السلاح.
حاولت، كما حاول كثيرون، البحث عن مجال للعمل الثوري نستطيع أن نكون مفيدين فيه، ونعرف جدواه، مع فئة مخلصة. نجح بعضنا وفشل آخرون في إيجاد مكان مناسب لهم، فآثروا الانسحاب بعد أن أصيبوا بخيبة أمل.
بالنسبة لي ، بالرغم من تواصلي المستمر مع الداخل، لم أجد جدوى من أي عمل خارج نطاق الكتابة لأقول رأيي في ما يحدث ووجهة نظري عمّا يجب أن تكون الأمور عليه.
ربما يحلو لبعض من هم في الداخل أن يقولوا إن الذين خرجوا من سوريا هربوا من المواجهة، أو انسحبوا من الثورة وتنكّروا لها . هذا الكلام غير دقيق، فما نفع بقاء معظمنا في الداخل وتعريض نفسه لاعتقال آخر قد يكون نهاية لحياته من غير فائدة، أو قد يكون عرضة للاعتقال من بعض الفئات المتطرفة التي بدأت تختار عملية التصفية لمن يخالفها. وحتى إن وجد أحدنا له عملاً مع فئة مخلصة فسيكون عرضة للحاجة، لأن عمله سيكون تطوّعيّاً بلا مقابل، وإذا تقاضى مقابلاً فسيقال بأنه يغتني على حساب الثورة.
لهذا آثرت ممارسة دعمي للثورة من خلال ما هو متاح لي من بذل فكري، ومحاولة الدعم اللوجستي، بحسب قدرتي، للفئات التي أراها مخلصة وتسير في الاتجاه الصحيح.
سأبقى داعماً للثورة بكل ما أستطيع، وأثق بانتصارها، وأظنّ أن المجتمع الدولي بات يتحتم عليه صفع العصابة الحاكمة في سوريا ، ليس محبّة بنا، إنما لرعاية مصالحه والحفاظ على ماء الوجه، وهذا في الحقيقة كلّه من رعاية الله الذي ينصر من ينصره وإن بدت لنا غمائم لانعرف مغزاها. غير أننا على ثقة بأن الحريّة قادمة، وأن النصر حليف المثابرين ولابدّ من نيله، ولو بعد حين.
الثورة السورية ثورة أمة وليست ثورة بلد أو منطقة، ولهذا لا يُستغرب أن تأخذ وقتاً كي تحقّق تطلّعات الأمّة. من قال إن ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن قد انتصرت وحقّقت آمال الشعوب في تلك المناطق؟
أرى مثل هذا الطرح استفزازيّاً يثير الشجون ويهدف إلى دعوتنا للحفر التاريخي. لقد استطاعت جماهير تلك البلدان إزاحة رأس الأفعى ولم تتمكّن من قصّ ذيلها.
الطغيان أخطبوط له أذرع متعدّدة لا تعرف الرحمة. لنلاحظ أن الزحف الجماهيري تركّز في النظم الجمهورية. النظم الجمهورية العربية كالحرباء تغيّر لونها تبعاً لمصالح العصابات الحاكمة فيها، وهي كسائق (حربوء) يتميّز بالغباء، يؤشّر بضوء اليسار ويمشي في أقصى يمين الشارع.
لم تنجز الجهوريات شيئاً مما بشرّت به، بل كانت حريصة على اختراق الدساتير التي تتغنّى بها. ترمق حاكم الدول المعادية بنظرة غضب وتصافحه بحرارة من تحت الطاولة، بل تنحني لتقبّل أيدي من تدّعي أنها تقف في وجوههم.
الثورة السورية نقطة الحسم في الربيع العربي، والثورات الأخرى تنويعات.. تنويعات لا تنتصر مالم تنتصر الثورة السورية.