يشعر الشارع العربي بالإحباط نتيجة الواقع الذي يشير إلى أن ثورات الربيع العربي تُسرق تباعاً ويتم استغلالها من تجار الحروب. كما أن اندحار طاغية ما بالموت أو بالتنحي لم يغيّر شيئاً من الواقع المتردّي الذي تعيشه شعوب الدول العربية، وهذا يدعونا لإعادة التذكير بمعنى الثورة وأهدافها.
الثورة لا تعني استبدال مستبّد بآخر، وإنّما تستهدف تغييراً جذرياً في أسلوب الحكم، وفي بنية المجتمع والدولة. ولم تكن تعني عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام” تغيير شخص وحسب، وإنما تعني إسقاط الجمود في التفكير وتقويم السلوك.
لم يفهم الطغاة، حتى الآن، أن القتل والاعتقال والتعذيب قد تقضي على حياة الثوري لكنها لا تقضي على الثورة. الثورة فكرة والفكرة لا تموت.
حكم الطغاة بلادهم بالعصا، ومنهم الديكتاتور بروفيريو دياث الذي حكم المكسيك بقبضة حديدية منذ 1884 وحتى 1911 الذي قال للحاضرين: “ها هي طريقتي في الحكم، هذا الخبز سيكون في متناول جميع المواطنين ولكن أي مواطن يطلب أكثر من الخبز سأهوي بهذه العصا على رأسه”. بهذه العقلية يفكّر الحكّام العرب الذين يغدقون الامتيازات على الفئات التي يعتمدون عليها في فرض سيطرتهم بينما لا يهتمون بمعاناة غالبية الشعب. إن الاعتماد على القمع وحده لا ينجح في تثبيت أي نظام سياسي، كما أن الإفراط في قمع الناس سيوصلهم إلى لحظة يدركون فيها أنه لم يعد لديهم ما يخسرونه.
كما أن الدجل الإعلامي الذي يبيّن عبقرية الزعيم وقدسيته، ويهوّل من خطورة المؤامرات التي يصنعها من يسميهم الخونة والعملاء؛ ذلك كله لن يستمر إلى الأبد.
صحيح أن ثورات الربيع العربي لم تحقق أهدافها حتى الآن، ولكنها أحدثت وعياً جديداً في المجتمع ومنحت الناس رؤية جديدة للعالم جعلتهم يعيدون النظر في كل شيء، بدءاً من تقديسهم للدعاة الأدعياء الذين تبيّن أنهم دجالون يعملون خدماً لدى السلطة التي تفسح لهم مجال الشهرة؛ مروراً بالمثقفين المدجنين والتجار الفاسدين المفسدين.
الثورة بدأت، قد تتعثّر، ولكنّها لا تنهزم أبداً، ومن المستحيل أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورة.
إن بضع سنوات في حساب التاريخ مجرد لحظات في عمر الشعوب. ولنا في الثورة الفرنسية عبرة.
الفرنسية والسورية إرساء لديمقراطية جديدة
هناك تشابه كبير بين الثورتين الفرنسية والسوريّة، بدأت الثورة الفرنسية عام 1789 وامتدت حتى 1799، عشر سنوات من العذاب أثّرت على أوروبا كلّها. وها هي الثورة السوريّة، في سنتها السابعة يمتد تأثيرها على المنطقة بأسرها. تم حشد الجيش من مناطق الأطراف إلى باريس، وأغلقت الجمعية الوطنية، وعاث بعض الجند، الذين تمّ استقدامهم إلى العاصمة من المرتزقة الأجانب العاملين في الجيش الفرنسي، عاثوا فساداً. هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى انتشار الغوغاء، والفوضى، وعمليات سلب ونهب، وانتشر الشغب في باريس؛ وكان بعض مرتكبيها من جند الجيش ذاته.
لقد أثّرت الحرب بشكل بالغ السلبية على الاقتصاد الفرنسي، فارتفعت الأسعار، وتزايدت الأنشطة المعادية للثورة في بعض المناطق. انطلق حكم الإرهاب في فرنسا؛ ووفقاً لسجلات المحفوظات أعدم ما لا يقل عن 16,594 شخصا باستخدام المقصلة.
في سوريا أيضاً كانت الخطوات ذاتها من استقدام مرتزقة وارتكاب جرائم وارتفاع الأسعار، وانتشرت عمليات السرقة والخطف (التشويل)، حتى بات بعض مناصري الثورة يعادونها. وارتُكبت مجازر جماعية بالذبح والحرق والموت تحت التعذيب، واكتظت السجون، وتم تهجير الملايين، وأمسى نصف السوريين لاجئين.
ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ كان من نتائج الثورة الفرنسية إقرار فصل السلطات وفصل الدين عن الدولة والمساواة وحرية التعبير. وتم القضاء على النظام القديم، وفتح المجال لتطور النظام الرأسمالي وتحرير الاقتصاد من رقابة الدولة. وتم إلغاء الحقوق الإقطاعية وامتيازات النبلاء ورجال الدين وصودرت أملاك الكنيسة. لقد عُدّت الثورة الفرنسية وميثاق حقوق الإنسان الذي جاءت به، بمثابة “إنجيل العصر الحديث” في العالم الأوروبي، فبنجاح الثورة الفرنسيَّة في تحقيق أهدافها دخلتْ أوروبا في مَوجة جديدة، فقد عملت فرنسا على تصدير الثورة لجِيرانها الأوروبيِّين، وحمَل خِطابُ الثورة الفرنسيَّة طابعاً عموميّاً.
في البداية وقفت دول الجوار ضد الثورة الفرنسية خوفاً من امتداد الغضب إليها، ودول أخرى ساندت المملكة حتى تعبت من الترقيع.
بعد أن نجح الثوار حصل ارتداد إلى النظام الملكي القديم ثم عادت الثورة إلى مسارها الصحيح فترسخت معالم الديمقراطية وبدأ البناء. دول الجوار استفادت وراحت تقطف ثمار ثورة جارتهم فنعمت أوروبا وشكلت تكتلات ترسي معالم حضارية جديدة.
هذا حدث في فرنسا ويحدث في سوريا.
لا مسوّغ للخوف من انتصار الثورة السورية
ستُعدّ الثورة السورية، بعد حين، آية في العصر الحديث، فبنجاحها سيدخل العالم العربي موجة التغيير والإصلاح ويتم التحرر من ربقة الاستعمار ومن هيمنة التطرف والنزعات الاستبدادية، وسيتم تصدير منجزات الثورة إلى المحيطين العربي والإسلامي من غير إراقة دماء ومن غير خسائر جسيمة، فقدر سوريا أن تحمل عبء التغيير.
من هنا أريد أن أوضّح للدول التي تبدّلت مواقفها خشية مدّ الثورة إليها بعد نجاحها في سوريا: ذلك لن يحدث.. تنجح الثورة في سوريا ويبدأ العالم العربي بالنهوض من جديد، ويتم التغيير الديمقراطي بعيداً عن التطرف.
الذي ينبغي أن تخاف منه دول الجوار هو المدّ الداعشي الذي لن ينتهي مادامت القبضة الأمنية هي الحاكمة في سوريا.
إن تركيبة داعش معقدة فهي مكونة من خليط يتبع بعضهم القاعدة وبعضهم من المتشددين الذين كانوا معتقلين اختارت السلطة السورية الإفراج عنهم قبيل سقوطها ليشكلوا (بعبعاً) للمجتمع السوري والعالم، ودسّت بينهم عناصر مخابرات سورية – إيرانية لتذكي نار التشدد والقتل بقسوة. ولا يخفى أن الدول الغربية وأمريكا استعانت بأمثالهم ليتسنى لها البقاء ضالعة في شؤون العالم. أما القاعدة الكبرى للدواعش فهم السذج من السوريين والعراقيين وباقي بقاع الأرض الذين يتوهّمون بأن الانضمام لتنظيم الدولة، والقتال من أجل خلافة إسلامية، هو جهاد في سبيل الله.
الزمن يسير ..المعاناة تستمر ..القتل يزداد.. سيأتي الوقت الذي يدرك فيه المغرّر بهم أن العالم يتّسع للجميع ولا يمكن لفئة أو مكوّن واحد من العيش منفرداً، ولابد له من التعاون مع جميع المستضعفين للوصول إلى حياة كريمة، فيها الحد المعقول من تكافؤ الفرص.
ولهذا نقول للمثقفين خاصّة: لا تيأسوا ولا تنشروا الإحباط بين أقرانكم، فلا بدّ للغيمة أن تنقشع، ولابد للقيد أن ينكسر. وتذكّروا أوروبا التي كانت غارقة في الدماء حتى الأعناق، وها هي الآن تنعم بمنجزات الثورة الفرنسية التي دحرت الطغاة، ونشرت لواء حرية في سماء أوروبا كلّها.