قامت الثورة السورية على أكتاف الفئة المستضعفة البسيطة من الشباب، وبخاصة الشباب المتديّنين الذين أثقلت كواهلهم المعاناة اليومية نتيجة تفشّي الفساد في سوريا.
هذه هي المقولة الشائعة التي تبيّن بُعدَ المثقّفين عما جرى ويجري في سوريا منذ أكثر من عامين. وهذه الجملة هي إحدى ذرائع السلطة التي تتمسّك بها لتبيّن أن ما يجري في سوريا هو مجرّد فئة مندسّة من الشباب الطائش تحوّلوا إلى عصابات إرهابية وأنّ المثقّفين بمنأى عنهم وهم منهم براء.
في ظلّ هذا الوضع يرى المثقِّف نفسه لا ينتمي إلى رابطة ثقافيّة، كما لا ينتمي إلى فئته الاجتماعية التي انحدر منها، لذلك يعاني الاغتراب ويدين السلطة والجمهور ونفسه، ويتبادل مع زملائه الاتّهامات بغير احترام. فكيف يثق الجمهور بمن لا يحترم سواه كدليل ضمنيّ على عدم احترامه لذاته. إنّ مثقِّفينا – كمواطنيهم – يعتقد الواحد منهم أن نجاح الآخر يعني فشله. وبالتالي فهو في صراع مع مثيله، ونحن – عموماً – لا ننقد، بل نكتفي بالتشهير ببعضنا. وكثيراً ما أعرض عن التصريح بآرائي لأنني لا أريد فضّ العلاقة الثقافية والحميمية بيني وبين الآخرين. فإذا اجتمعت بمثقِّفين ذوي اتّجاهات مختلفة، بدءاً من أقصى اليمين وانتهاءً بأقصى اليسار، فإنّ التصريح بوجهة نظري لابدّ أن يعني أنني سأخسر الفرقاء الذين لا يوافقونني عليها لأننا – إلى الآن – لم نتعلّم كيف نتّفق على الاختلاف، ونربأ بأنفسنا عن الطائفية والتعصّبية والشلليّة. ونتجاهل أن أيّاً منّا لا يستطيع أن يكشف إلاّ عن حيّز ضئيل من الحقيقة، من غير أن يستطيع أحد الادّعاء بحيازتها وحده، وقد يبدو المثقّف تقدميّاً في محيط زملائه الجامعيين مثلاً – ورجعياً في محيط أسرته. وعلى ذلك يلاحَظ لديه انفصام وازدواجية في السلوك، مما يصرف الجمهور عنه. والمثقِّف يخاف من إبداء الرأي بحريّة، ولا يبقى مصرّاً على مواجهة السيِّء أو الشر أو القبح، فكيف يريد من الجمهور أن يفعل ذلك؟
إرهاصات الثورة لدى المثقّفين
بدأ المثقفون بوادر الثورة عبر كتاباتهم وتصريحاتهم المختلفة، ومهّدوا لبدء حالة الغضب، وقد أحجم الجمهور عن التواصل مع الفعل الثقافي لارتيابه بكل ما يدور حوله، ظانّاً أنّ الحوار يبقى محصوراً في إطار المتنفّذين الذين لا يريدون من الحراك سوى كشف المعارضة أمام السلطوي، تمهيداً لتسليمها إليه واستلام المكافأة.
شارك مثقفون كثيرون في الثورة منذ بداياتها، سُجِن كثير منهم، وأسهم كثيرون في أوجه متنوعة من نشاطاتها، وبرز مثقفون في قيادة التشكيلات المعارضة التي ظهرت، وهذا يعني أن الثورة ليست ثورة شباب منهكين برزوا من الحواري القديمة. وشكّل حضور نساء مثقفات ظاهرة لافتة، ونسبة مهمة منهن من أقليات دينية ومذهبية، ما يؤكد أن الثورة السورية ليست ثورة رجال أو ثورة ذكورية، وليست ثورة مسلمين سنيين، وليست ثورة الأكثرية العربية.
المثقف طيف من أطياف المجتمع، ومواقف المثقفين متنوعة بحسب المواقف الاجتماعية المختلفة، بين مندفع ومتريث وخائف وموارِبٍ وموالٍ.
الكتّاب والصحفيون لم يكونوا الأبرز حضورا في الثورة السورية، خلافا لكل ما اتسم به دور المثقفين في الحياة العامة في مراحل سابقة من تاريخ سوريا، لكنّ ما قام به كثيرون لم يكن تحت غطاء الهيئات التي ينتمون إليها، بمعنى آخر لم يعملوا بوصفهم مثقِّفين. ومجال نشاط كثيرين منهم اليوم يحيل إلى نشاط أدبي وفنّي. ومع ذلك برزت أدوار الكتّاب الصحفيين والمحامين والمهندسين والأطباء وسواهم من خلال تنظيمات بديلة بدؤوا تشكيلَها كمنظمات موازية لما هو قائم ويدور في فلك السلطة راضياً أو مرغماً.
بالمقابل، ظهر عدد غير قليل من الكتّاب المخضرمين تتراوح مواقفهم بين التحفظ والارتباك والتأييد الفاتر، وربما يعود ذلك إلى تجربة الثمانيات المرّة حيث ذاقوا مرارة الوقوف في وجه الظلم وحين التفتوا لم يجدوا حاضناً شعبيّاً لهم، فتجرعوا آلام الاعتقال والتهجير، وتعود كثير منهم على العقلنة التبريرية، والعيش في عالم من الكلمات.
هذا في حين كانت الثورة مناسبة لظهور معارضة جديدة متميزة عن المعارضة التقليدية بكونها شبابيّة أو تعتمد على مخضرمين يتمتّعون بروح الشباب، وهي معارضة لا حزبية، وأقرب للحياة وميادينها، وأقل تمركزاً حول الإيديولوجية وحول الأحزاب التقليدية والسياسيين القدماء، باستثناء من تجدّدت لديهم روح العمل السياسي وفق المستجدات.
الموقع الذي لم يبرز من جهة المثقفين التقليديين هو المشاركة في الثورة من موقع الثقافة، أي العمل على تغطيتها ثقافيّاً. المثقف الجديد والمتجدّد انخرط في الثورة من غير أن يرى ذلك نشاطاً سياسياً حزبيّاً أو عقائديّاً. نجد مثقفين سوريين اختاروا الوقوف في صف الثورة منذ البداية، ومنهم برهان غليون وطيب تيزيني وعلي فرزات وصبحي حديدي (على سبيل المثال)، وآخرين شككوا في مشروعيتها وهويتها، ومنهم أدونيس، بحجة أنه يخشى «وصول الإسلاميين إلى السلطة». وموقف أدونيس غير مفاجئ، لأنه لم يكن معارضاً يوماً ما للنظام السوري المستبد، بل كان يقف دائماً ضد التراث العربي الإسلامي ساعياً إلى جائزة نوبل التي لم ولن يطالها. شارك هؤلاء في المؤتمرات والندوات واللقاءات منذ انطلاق الثورة السورية، وفي كل اللقاءات أكد المثقفون على خطورة الوضع السوري وحتمية تأييد الثورة الشعبية التي أسقطت حاجز الخوف ضد نظام إجرامي وفاسد، ولا يمكن لدور المثقفين أن يتجاوز مستوى تعبئة الرأي العام والدعوة إلى دعم الشعب السوري في ثورته التي تهدف إلى التخلص من النظام الديكتاتوري.
بعض المثقفين وفق المعيار التقليدي يرفضون تسمية ما يحدث في البلدان العربية وفي سوريا بالثورة، تشبثاً بمفهوم الثورة التقليدي الحامل لأيديولوجية بقيادة زعامات ثورية، ويقلقهم الحضور الإسلامي القوي في المعارضة، منذ انتصار الثوار في تونس ومصر وليبيا.
دور المثقف بعد انتصار الثورة
تشابهت الأنظمة العربية في تأسيس ثقافتها على الثنائيات واختلفت العناوين: إسلام حداثة، رجعية تقدمية، دولة دينية …؛ دولة مدنية. وتحولت الثقافة إلى سقف حديدي يحمي الحداثة من الأصولية (تونس) ويحمي الإسلام من الحداثة (دول أخرى).
المثقف لا يمكنه مواصلة تبنّي الأطروحات المؤسّسة على الثنائيات نفسها وعليه أن يلتحق بالشعوب التي أنجزت الثورة والقيام بالمراجعات اللازمة للتأسيس لثقافة جديدة قوامها الانحياز للإبداع… والاقتراب من هموم الناس المتطلعة للكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية والنأي بالنفس عن التجاذبات، والعمل على أن تترتب المشاهد ويتكثف الوعي بالأفكار الجديدة التي ستظهر بفضل المساحة الحرّة والخصبة المتاحة إعلامياً وفي كل ما له علاقة بالثقافة بتعدّد الألوان في المسرح والسينما والأدب والفكر من شأنه أن يطوّر قدرة المواطن على التمييز والاختيار، وسيتمكّن من بناء رأي عام جمعي ، تصير من خلاله الثقافة طريقة للعيش وقوة داخلية لتطوير الذات . إنّ الفترة قادمة قد تطول لنرى ثقافة قادرة على تنوير السبيل وانتشالنا من غيابات الضّياع. في ثقافتنا ومجتمعاتنا ما يكفي من العناصر السلطوية والتسلطية والأبوية والثأرية، بما يجعل إعادة إنتاج نظام الاستبداد مجدداً، بصورة أو أخرى، احتمالاً وارداً ومخيفاً.
يقوم معذبو الأرض السورية بثورة على حكم وحزب وطغمة عسكرية– مالية أمنية متسلطة وعلى قيادة وزعامة أبدية. وأهم ما يمكن للمثقفين أن يفعلوه بداية، هو التخلص من وزارتي الثقافة والإعلام، والانطلاق من أرضية محايدة تلتقي عليها المذاهب والعقائد الدينية والأفكار، بحيث تتمكن من التعامل مع الفضاء العام والشأن الوطني والساحة السياسية الجامعة. بعد رحيل النظام، وعودة الناس إلى ما تبقى من بيوتهم، وبعد تجاوز مرحلة قلقة محتملة من الفوضى والانتقامات الثأرية وتصفية الحسابات بين عدد من الأفراد والمجموعات، سيسود مجدداً في المجتمع مزاج التدين الشعبي السوري البسيط والسمح والذي عرفت به سوريا المعاصرة، وعرف به شعب سوريا عبر التاريخ. في مثل هذا المناخ سيجري استيعاب تيارات الاسلام السياسي الأكثر تعنتاً وتخفيفها في بحر الإسلام الشعبي التقليدي. أي أن سوريا غير مرشحة لسيادة ذلك النوع من الاسلام الذي يمنع التعليم ويغلق الجامعات ويعطّل المعاهد ويحرم المرأة من التعليم والعمل المنتج. إذا أوصلنا الثورة إلى صناديق الاقتراع بأمان نسبي، لا نرى أن أياً من تيارات العلمانية أو الاسلام السياسي المغالية في سوريا سيتمكن من اكتساح نتائج الانتخابات على الطريقة المصرية أو التونسية.
الأقرب إلى واقعنا هو صراع شخّصه فرانز فانون في كتابه الشهير «معذبو الأرض» ومن المفيد العودة إليه اليوم في أية محاولة لتشخيص الثورة السورية وفهم طبيعتها، بخاصة أن فانون كان رائداً حقاً في وصف آليات ومراحل تحول قوى سياسية وأحزاب وتنظيمات بدأت كأحزاب وحركات تحرر وطني في مجتمعات عالم ثالثية مقهورة، إلى طغم حاكمة انفصلت تماماً عن بداياتها وقواعدها الشعبية الأولى وعن البرامج التحررية التي تبنتها بداية وعن الأغراض التي جاءت من أجلها لتقوم بقمع جماهير بلادها الشعبية من معذبي أرضها وتدوس على رقابهم، ثم تتجه بالضرورة إلى تمجيد القائد الأوحد الذي يخرج من صفوفها إلى رفع شخصه فوق مستوى البشر والأرض والوطن، وصولاً إلى درجة التأليه. هذا كله دفاعاً عن احتكار الثروة والسلطة معاً مع ما يرافقهما من امتيازات ومغانم ومصالح طبقية وفئوية ضيقة على حساب البقية الباقية من البلاد وأهلها.
يأتي الكواكبي هنا ليفصّل في كتابه “أم القرى” الملامح القادمة لما ينبغي أن يكون في وسط متديّن وسطي، فلابد أن ينبري المثقِّفون فيه لمكافحة الفساد وتبيين الطرق المناسبة لغد جديد.
كان المثقِفون في سوريا وما يزالون هم الذين يحملون هموم المواطن والوطن، ونرى أعداداً كبيرة منهم تقف اليوم مع الثورة وتعبّر عنها، ولكن بأسلوب لا يوضّح أنه فعل ثقافي.
أما الحفنة الصغيرة من المثقَّفين والفنانين السوريين (ولا أقول مثقِّفين) (بسكر القاف وتشديدها) الذين ناصبوا الثورة العداء أو وقفوا ضدها بحياء أو بنوع من الحياد أحياناً، فهم معروفون ومعدودون ولا يشكّلون إلاّ قلة قليلة، أما الغالبية فهم الصامتون الذي لم يعلنوا أيَّ موقف حتى الآن، ومواقفهم معروفة في محيطهم الضيّق وحسب.
نحن اليوم، في ظل التحرير، نعود إلى فترة ما قبل التخلّص من الاستعمار، ومهام المثقِّف اليوم هو الانتقال إلى حالة شبيهة بالجو الديمقراطي الذي عاشه السوريون بعيد الاستقلال، في خمسينات القرن الماضي.
ونعود مرة إلى المثقِّف من هو؟ هل هو كيان مستقل؟ إنه الطبيب أو الصيدلي أو المحامي أو الموظف أو الانسان العادي، فليس هناك علاقة استثنائية للمثقِّف بالثورة، فالمثقفون لا يصنعون الثورات أو يقودونها، قد يمهدون لها ويحرّضون عليها ويصوغون بياناتها وبرامجها وينشرون دعايتها ويكتبون أدبها وينشدون شعرَها وينتجون تحليلاتها ويموتون في سبيلها، ولكنهم هم أنفسهم الطبيب أو الصيدلي أو المحامي أو الموظف أو الكاتب. هؤلاء جميعاً يمكنهم تشكيل هيئاتهم الثقافية ومنتدياتهم الأدبية وحلقاتهم الفكرية واتحاداتهم المهنية المستقلة ذاتياً، أو إعادة هيكلتها، وإدارتها بغير تبعية لأحد أو هيمنة لطرف.
ونحن كي نحقّق قفزة نوعية في الفعل الثقافي، بعد انتصار الثورة، علينا أن نصبر، لأن الفعل الثقافي تراكمي اجتماعياً وبطيء تاريخياً، ولا تظهر نتائجه النوعية إلاّ متأخرة. المهم أن نحرص على تثبيت ما يصلح للمجتمع من أهداف مثل: الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية والدستور والتسامح الديني والنشاطات الأهلية وحقوق الانسان.