ما إن نشبت الحرب الروسية الأوكرانية، حتى تلقفها السوريون في مدن الهجرة واللجوء، أولئك الذين تغلب عليهم سمة المعارضة، أو المتضررين من حرب النظام السوري على شعبه، هل يمكن للسوريين تحمُّل مزيدٍ من الألم؟ هل يمكن لهم أن يبتعدوا عن قضيتهم المركزية وجرحهم النازف، ليتألموا ويتعاطفوا مع ما يحصل في بلاد أخرى؟! أم سيكون حالهم كحال مهدي الجواهري حين قال:
لم يبق عندي ما يبتزه الألم حسبي من الموحشات الهم والهرم
لم يبق عندي كفاء الحادثات أسىً ولا كفاء جراحات تضج دم
في زحام المعاناة السورية المعقدة والمعنِّدة والمديدة، المنتشرة مع انتشار السوريين في أطراف المعمورة، ما إن تحدث جلبة هنا أو ضجة هناك حتى تجد آلاف السوريين يتدافعون عبر الفضاءات السيبرانية، ليدينوا ويتعاطفوا ويحللوا ويقرروا آفاق الحدث وإلى أين ستنتهي الأمور كما يتمنون، وهل سيكون لهذه الوقائع انعكاسات على جمود حالتهم الكارثية؟
هل يمكن للأمر أن يكون من قبيل استئناس الغريب بالغريب، واهتمام الجريح بالجريح؟
هل يذكرنا هذا بتأسي الخنساء بمصابها في أخيها صخر : “ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي”.
هل يمكن للمرء فعلاً أن يحمل هذا القدْر من التعاطف العميق، مع مصائب مجموعات بشرية أو لنقل أمم أخرى؟ بعبارة أقرب: هل يمكن للحزن أو الأسى أو الحب أن يتسع ليشمل الإنسانية جمعاء، أو شطراً منها؟ لقد اتفق “مونتسكيو” و”هنري برغسون” على استحالة حب أو كره الإنسانية عامةً، أو حب شعب بمجمله، أو حتى من يعيشون في مدينة واحدة، إنما يكون هذا من خلال نقاط محددة، يتم عبرها التواصل مع هذا العالم.
في الوقت ذاته إننا لا نستطيع الجزم الصادق، بالتألم لموت أمهات سوريات لا نعرفهن، إنما نتمثل هذا الألم أو الحزن تجملاً وتخلقاً بفضيلة التعاطف مع الآخرين، وتمثلاً لقيم العدالة ومناصرة الضعيف أو المظلوم، لكننا وبشكلٍ أكثر دقةً نتألم حقا لموت أمنا أو أم صديق نعرفه، وهكذا فالارتفاع إلى مستوى الحب العام والكلي ليس من خصائصنا الإنسانية.
وفي حديث مونتسكيو عن الإنسان الفاضل يقول “إن الرجل صاحب الفضيلة الحق يقدم المساعدة للغريب الأكثر بعداً عنه، بنفس السرعة التي يقدمها لصديقه“.
وعن هذا ينتج “لو أن الناس يتمتعون بالفضيلة الكاملة لما أصبح لهم أصدقاء” ولو تحقق هذا العالم الفاضل، لكان من العسير أن نصفه بأنه مجتمع إنساني، لأنه في الواقع يتعداه بالطبيعة لا بالكم، والحقيقة إننا حين نتعاطف مع جريحٍ ما أو نتألم لألمه، إنما نتعاطف مع ألمنا الذي يشبهه، إنه يذكرنا بألمنا فيعاودنا الإحساس بذلك الألم، وإن كان بشكلٍ رمزي أو مقارب.
هل يمكن أن يكون هذا الشعور بالتعاطف ومشاركة الألم، نوعاً من أنواع الهروب والتشاغل عن الألم الذاتي، بآلام أخف وطأة وأبعد ملامسةً؟
يمكن أن تكون هناك اتجاهات عدة، تعلل هذا الميل الحميم لهذا التفاعل الإنساني، سواء كان في حدوده الدنيا، تمثلاً ينبع من موقف أخلاقي وعقلاني، أم انفعال حقيقي يقارب في نوعه الانفعال مع المعاناة الذاتية. لقد أتاحت وسائل التواصل العابرة للقارات، والمقتربة أو الملازمة للحدث في ثوانيه الأولى، أن يكون التضامن والتفاعل وتشكيل المواقف الجماعية التي تصل لتحشيد الملايين أو مئات الملايين في ساعات محدودة، وتصبح صورةٌ التقطتها عدسة هاوية أو هاوٍ، مادةً يتداولها الملايين عبر حواسبهم ومحمولاتهم الشخصية، وينتقل تأثيرها ليحرك ملايين أخرى في حواضر شتى، وكأنه بهذا يخلق عدوى جماعية، كما تسري عدوى الحماسة الصوفية لدى المشاركة في حلقات الذكر، فينتابهم جميعا انفعال تزداد وتيرته مع ارتفاع وتيرة الإنشاد أو التراتيل ونقرات الرق المصاحبة.
كذلك يحلم المقهورون في كل بقعة من الأرض، حين تنتصر ثورة أو انتفاضة هنا أو هناك، لتنعش حلمهم الذي أصابه البرود بفعل الزمن الطويل وتراكم الأوجاع، وللقول بلغة البيانات والعرائض وصفحات التواصل والوقفات الاحتجاجية أيضاً، إننا وإن عجزنا عن بلوغ أحلامنا في بلدنا فإننا نخوض المعركة ذاتها مع المظلومين والمقهورين، والحالمين بالحرية والعدالة في أي بقعة من هذا العالم.
وكما أننا نلمس تكتل قوىً عالمية تتحكم بمصائر الشعوب، وتحرص على ترسيخ عبوديتها وارتهانها لأنظمة قمعية، فإن تكتل المعذبين في الأرض والمقهورين والمهجرين، ومحاولتهم خلقَ صوتٍ مشترك يشعرهم بقوتهم وبعدالة مطالبهم ومشروعية أحلامهم، ما هو إلا رد فعل طبيعي له فعل معزز يقاوم الإحساس بالتهميش والفشل، وربما يشارك هذا في خلق رأي عام عالمي مأمول، يرغم المتجبرين في الأرض على التريث قليلاً ويكفهم عن التمادي في عسفهم.