ربما يمكن أن ننظر لتاريخ السوريين الحديث، بوصفه تاريخاً للعنف المستمر، الذي فرضته الديكتاتورية المتلازمة مع حكم البعث وحكم آل الأسد.
هذا العنف الذي صبغ حياتنا السياسية والاجتماعية على حدٍ سواء، فهو يسيل من عنف السلطة وأجهزة الأمن الذي يهيمن على كل تفاصيل حياتنا، فيتسلل من السياسي إلى الاقتصادي إلى الاجتماعي، ليستقرَّ بشكلٍ كثيفٍ في بيوتنا، ويطبع علاقة الأب بأبنائه، وعلاقة الرجل بزوجته وهكذا دواليك.
وفي العقد الأخير الذي عاشت فيه سوريا حالة حرب لم تترك بها حجرةً آمنة، أو زاوية من زوايا حياتنا بمنجاة عن شرر تلك الحرب، فقد غدا العنف القاسم المشترك الأعظمي، بين جميع تفاصيل حياتنا وعلى تنوع تكويناتنا كسوريين.
وأصبحت مظاهره حالةً شائعةً، في الشوارع ناهيك عن البيوت والمدارس، بعد أن صار صوت الرصاص وصدى البراميل المتفجرة، ورائحة الدم وأصوات الضحايا تطغى على ما عداها.
كما أصبح العنف جزءاً أساسياً من هيبة الدولة، فلا يصح أن نتخيلها بمعزلٍ عنه، وفي حادثةٍ جرت مع صديقٍ لي في مدينة حلب، حين توسط لضابط شرطة، كي يفرج عن طفلٍ صغيرٍ، بعد أن أكَّد له أنه بريء من التهمة المنسوبة إليه، فما كان من الضابط بعد تحققه من براءة الطفل، إلّا أن أوعز لأحد مرؤوسيه، بأن يصفع الطفل البريء بضع صفعات، ويخرجه من السجن لأنه بريء!
ستنتهي الحرب يوماً ما في سوريا، وستختفي الأسلحة المخزونة لدى مئات آلاف البيوت بعدها بسنوات، لكن اختفاء مفاعيل العنف وتماثل النفوس التي ترعرعت، على أقسى صنوف العنف لسنواتٍ مديدة، سيستغرق زمناً طويلاً، ويزيد في استمراره تمزق سوريا إلى دويلات متصارعة، تمثل كل دويلة فيها مصالح وأجندات الدولة الداعمة، الأمر الذي سيطيل أجواء الصراع، ويسوغ استمرار العنف كوسيلة للبقاء.
ربما يساهم في تقصيره، اطلاع المثقفين بدورهم في إشاعة الثقافة المنددة بالعنف، وتوظيف الإعلام محلياً وعالمياً في نقده وتجريمه، إضافة لتشديد القوانين والعقوبات التي ستفرض على المنتهكين.
وبعد هذا كله سيبقى العنف حاضراً في لغةٍ أدمنته لعقود، وتحتاج لعقود أطول لتنقية لغتنا الجميلة منه، ونحن نلحظ بشكلٍ يوميٍ كيف تصدح مواقع التواصل الاجتماعي، كلَّ ساعةٍ بلغةٍ عنيفةٍ عالية النبرة لأدنى الأسباب، ومن العجيب والبعيد عن موازين المنطق، أننا نسمع اليوم راجمات الشتم والتعنيف والنقد الأعنف، تنطلق دون رقيبٍ أو حسيبٍ، سواء كان الخصم قاتل أطفالٍ، أو ديكتاتوراً يقهر شعباً آمناً، أو صاحب تعليقٍ إلكترونيٍ بسيط، عبَّر به صاحبه عن وجهة نظره، أو صورة سيلفي تمادى صاحبها في إبداء نرجسيته الطفولية.
ومع هيمنة مظاهر العولمة وتداعياتها، أمكن لهذا العنف المحلي أن يتسلح بأدواتٍ جديدةٍ، فصار الفضاء السبراني ومواقع التواصل وتقانات الميديا، أدواتٍ سهلةً، لمن أراد أن يمارس حرباً أو هجوماً عنيفاً على من أراد، دون قانون يردعه أو منطقٍ يحكمه.
ليس العنف محصوراً بالمعتدين وحسب، فقد يتمادى صاحب الحق فيتعسف في تحصيل حقه، وهذا أيضاً ضرب من ضروب العنف.
يزيد من هذا كله ما تمطرنا به وسائل الإعلام، التي نتبارى في إدخالها لحياتنا وبيوتنا، فالسينما والدراما وحتى بعض أنواع الموسيقا الحديثة، تعبر عن سيادة العنف، وتقدمه كنموذجٍ محببٍ للمنتصر، وكثيراً ما نجد أبناءنا يعجبون ببطل من أبطال تلك الأفلام، أو المسلسلات أو الألعاب الالكترونية، التي تملأ حياتهم، فيقلدون زيَّه، ويتخذون من عباراته حليةً لأحاديثهم الخاصة، ويزينون بصوره جدران غرفهم.
ومن مظاهر العنف البغيضة، والتي بدأت تدخل حياتنا بشكلٍ مدمر، انتقال السجال والخصومات، التي تحدث كثيراً في حياتنا الخاصة والشخصية، إلى فضاءات الميديا، التي يختلط فيها الكذب بالصدق والحقيقة بالمزاعم والناقدين بالشاتمين، وليس من سبيلٍ للتحقق أو لضبط هذا الفضاء، الذي أصبحت التفاهة فيه تنافس التعقل، بل وتتقدم عليه بأشواط.
وفي ذروة النزوع للعنف وتطوره، نصل إلى ما صار ظاهرةً شائعةً، وهو “العنف الجنسي” فإنه وإن كان شائعاً جداً ومشرعناً وفق شرعة المنتصرين زمن الحروب القديمة والحديثة، فإنه اليوم بات أداةً من أدوات إذلال القوي للضعيف، وأشدُّ إشكال تمظهره في سلطة الدولة، وكيف تعاملت مع المواطنين المعارضين والمعتقلين، لكنه اليوم ينتقل إلى ساحةٍ أوسع وأدهى، بعد أن فقدت الدولة سلطتها المركزية، وأصبحت الميليشيات والفصائل بديلاً عن تلك الدولة المتهالكة، وصارت البلاد نهباً لفسادهم، الذي ضارع فساد الدولة الأمنية التي خرجنا عليها.
ومع أنَّ العنف أداةٌ يلجأ إليها القاهرون والمقهورون لأسباب مختلفة، لكن تبقى العلة الأكبر في كل هذا الفساد والعنف، افتقار السوريين ولعقود، للحياة السياسية الوطنية السليمة، وغياب المؤسسات وتعطيل الدستور، وبقاء البلاد تحت نير الأحكام العرفية، التي تشكل بمفردها نمطاً طاغياً من أشكال العنف، تزيد من فرص الانفجار المجتمعي وتخلق مناخاً مبرراً للنزوع للعنف.