أحد عشر شهيداً حياً

نوفمبر 17, 2022

محمد برو

مقالات

يطالعنا نظام الأسد دائما. بفيوضاته المدهشة، فيرسل قاضي الفرد العسكري، وبشكل معلن ليبلغ أحد عشر معتقلاً. في سجن حماة، بقرار محكمته القاضية بإعدامهم.

 ليشهد العالم مدى التزام هذا النظام، بالإجراءات القانونية، حتى خلال تنفيذه لأحكام الإعدام، متجاهلا معرفة المجتمع الدولي أولاً، وسائر السوريين تالياَ بالمجزرة المستمرة، التي تجري تحت سمع العالم وبصره، في أعتى المسالخ البشرية في العالم، “سجن صيدنايا العسكري” وغيره كثير، من أقبية التعذيب المكتظة، بألف حرة وحر، حيث يُعدَم خمسون مواطناً سورياً كل أسبوع، ناهيك عن العشرات الذين يقتلون جوعا، وشيّاَ بأسياخ الحديد المحماة، وسلقا بمياه المراجل التي لا تنطفئ، وسحقا بالأقدام وبالأبواب الحديدية، علاوة عن العشرات الذين يريحهم المرض والتجويع والإهمال، من عناء الاستمرار في هذه المذبحة، التي ستبقى وصمة عارٍ في جبين الإنسانية.

كل هذا يجري، ونظام الأسد يُريدنا أن ننشغل اليوم بإحدَى عشْرةَ ضحيةً وحسب، ونتجاهل المجزرة المستمرة، التي لا تحتاج لقضاء عسكري ليكمل إخراجها، فالنظام تجاوز عتبة الخشية من المساءلة، ولو حصلت فإنَ مُساءلته عن قتل مئة ألف سوري، لن تختلف عن مساءلته عن قتل مليون، كلاهما يفضي إلى ذات النتيجة، تدمى قلوبنا وأرواحنا، حزناً على هؤلاء المعتقلين، ونظرائهم الكثيرين، ونناشد هذا العالم الأصم، أن يوقف هذه المهزلة المرة، وينقذ ما تبقى من أرواح.

ولكن متى كان نظام الأسد بحاجة لإعلان أحكامه؟ فهو منذ خمسين سنة يصفي معارضيه بكل صنوف القتل داخل وخارج سوريا دون أن يكترث لأية مُساءلة، وإن أبسط متتبعٍ للوقائع والجرائم التي ارتكبها نظام الأسد الأب والابن، سيجد دون عناءٍ أن هذا النظام يتمتع بحمايةٍ دوليةٍ، تخولّه المضي والاستمرار في القتل المنهجي، دون رادعٍ ودون أدنى تردد.

في مطلع الثمانينات من القرن المنصرم، شهدت ساحات تدمر، سلسلة طويلة من المحاكم الميدانية، بين عامي (1980-1995) والتي كان يترأسها، الرائد سليمان الخطيب، يعاونه كاتب من رتبة رقيب، حيث كانت المحكمة تنعقد أسبوعياً تقريباً، بعد وصولهم من دمشق بطائرة الهيلوكوبتر، التي كنا نسمع هدير محركها صباحاً، فيتجهز المعتقلون لمجزرة آتية لا محالة.

تدوم المحكمة زهاء ساعة ونصف، على الأغلب فيتم الحكم خلالها على مئة وثمانين معتقلاً، تتراوح أحكامهم في الغالب، بين العشر سنوات والإعدام، حيث تبلغ نسبة أحكام الإعدام فيها، ما يزيد عن سبعين بالمئة، وتكون هذه الأحكام مصدقة أصولاً، بختم وزير الدفاع مصطفى طلاس، قبل تقديم المتهمين للمحكمة.

ولمراتٍ عديدة، تم تنفيذ أحكام الإعدام، أثناء انعقاد المحكمة، أي دون فاصل زمني بين تبليغ الحكم وتنفيذه.

وتجدر الإشارة هنا إلى نقطتين:

الأولى أنّ آلاف الأوامر، بالقتل والإعدام والتصفية، كانت تصدر مباشرةً من رأس السلطة حصراً، وبشكل شفهي، وهكذا يجري الأمر، لدى جميع الأنظمة الاستبدادية، حيث لا يمكن لأية رتبة، من رتب السلطة، أن تنفرد بقرار قتل أو تصفية، دون أن يكون هذا صادراً حصراً عن رأس الهرم، وكل توهم خلا ذلك محض هراء.

الثانية أنه وخلال خمسين سنةٍ، من هذه الممارسات المجرمة، لم تحصل مراجعةٌ واحدةٌ، أو مساءلةٌ لضابطٍ أو مسؤولٍ، قام بقتل معتقلٍ، وثبت أن هذه الضحية قتلت خطأً.

باستثناء حالة واحدة، شهدتها بعيني في سجن تدمر، في صيف عام 1980، حين هدد رئيس السجن أحد مرؤوسيه، (بعقوبة حلاقة الشعر إن هو كررها ثانيةً) عندما قتل معتقلاً خلال التعذيب.

بل الأدهى من ذلك، أن هناك قانوناً ينص على براءة العنصر، الذي يقتل معتقلاً خلال التحقيق.

كل هذا كان يتم تصويره، ونقله للقصر الجمهوري، فحاكم سوريا العسكري، لا يثق بأحد، ويريد التحقق من تصفية خصومه ورعاياه شخصياً.

هذا كان يجري، والأمن مستقر لحافظ الأسد، بعد إحكام قبضته الحديدية على سوريا بعد عام 1982، فكيف بنظام الابن المسعور، وهو يخوض حرباً ترهقه.

ولتتويج هزليته السمجة، فقد خرج علينا من أسابيع قليلةٍ، بتبليغ مئات العائلات السورية، بوفاة أبنائهم قضاءً وقدراً، في مسالخه البشرية التي شهدها العالم أجمع، وظل صامتاً.

لقد استطاع هتلر حرق الآلاف المؤلفة من اليهود، لكن هذا جرى في غفلة من العالم، المنشغل في حرب عالمية، دمرت شطراً كبيراً من مدن أوربا، لكن جزار سوريا، يرتكب جميع جرائمه، والعالم أجمع ينظر ويسمع، ويتشاغل ويتجاهل، ويبتكر التعليل إثر التعليل، لتبقى المحرقة السورية مستمرةٌ، تقتات من دمائنا نحن السوريين.

سيذكر السوريون هذا طويلا، وستخلده حكاياتهم المرة، لأجيال ستأتي، أنهم ظلوا سبع سنين أو يزيد، يقتلون ويذبحون، وتهدم مدنهم ومساكنهم، ويشردون في الأرض، على مشهدٍ من العالم أجمع، دون أن يحرك أحدهم إصبعا بالرفض، بينما تتحرك الأساطيل والمدمرات، إذا ما هددت ناقلة نفطٍ، أو أنبوب غاز.

المصـــدر

المزيد
من المقالات