تطرق الذكرى العاشرة للثورة أبوابنا ورؤوسنا بوقفة تتجاوز الشكليات والشعارات إلى البحث في أوضاعها، وظروفها، ومآلها وفقاً لجملة المعيقات التي حالت دون تحقيق الأهداف التي انطلقت لأجل تحقيقها، والتي بلورتها بثمن كبير من التضحيات الشاملة والتي لا تتناسب ـ حقيقة ـ مع النتائج وما وصلت إليه أوضاع بلادنا من مأساة اعتبرت أنها الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، والمتراكبة مع أكوام من التعقيدات التي تسدّ الأفق على حلّ، أو مخرج قريب يلبي الحدّ المقبول من مطالب الشعب السوري بالتغيير، وبناء النظام البديل.
الكثير يحاول ترحيل أسباب هذا الواقع شديد التعقيد إلى العوامل الخارجية عبر تحميل المسؤولية في الذي جرى للدول الأجنبية، خاصة صاحبة العلاقة بالتأثير في الملف السوري وأنها هي من خذل الشعب السوري، وهي التي وضعت يدها على الملف وعملت على تدويله وتهميش الأطراف السورية ـ جميعها ـ في إخرجها من المعادلة كطرف رئيس.
نعم العوامل الخارجية كانت رئيسية وفاعلة، وسنقف عندها، لكن الأساس في الذي جرى يرتبط بالعامل الذاتي انطلاقاً لأنه هو الذي أفسح في المجال للنتائج التي وصلنا إليها، وهذا العامل الأساس لا يمكن الهروب من تحمّل المسؤولية فيه، ولا من الشجاعة في كشفه ومواجهته وصولاً إلى بلورة البدائل وقابليتها على التجسيد، ويمكن تلخيص أهم عوامله بـ:
1 ـ عجز قوى المعارضة “التقليدية” عن قيادة الثورة لأسباب بنيوية وواقعية، مقابل أن الثورة انطلقت بطريقة أقرب للعفوية والتوزّع، أي دون وجود قيادة مسبقة لها تمتلك رؤية أو برنامجاً لخطواتها وعملها، ولئن اعتبر البعض أن تلك الخصيصة عامل إيجابي يحمي الثورة من بطش النظام ـ فيما لو كانت لها قيادة ـ سيعمد على تصفيتها، فقد أثبتت الوقائع أن غياب قيادة مركزية للثورة كان ضمن عوامل التشتت وانتشار أشكال كثيرة من الصيغ والهيئات المتنافسة، وكثيرها يحمل برامج مختلفة، ومتناقضة أحياناً، بما في ذلك إفساح المجال لأنواع من التنافس والصراع حتى داخل قرى ومناطق صغيرة، ناهيك عن المدن.
نتيجة التحولات السريعة ودخول عوامل متعددة على خطّ الثورة، ومنها التحوّل القسري للعَسكرة، بات صعباً أن تلد الثورة من صلبها قيادة موحدة، فتعددت الرؤى والمواقف ومراكز القرار.
2 ـ جاءت ولادة الهيئات الممثلة للثورة بطريقة قيصرية، بل وغير طبيعية تداخلت فيها، وتدخّلت مجموعة عوامل تركت أثرها على بنية تلك الهيئات، وممارساتها، ومدى قدرتها على تمثيل الثورة وقيادتها، ونخصّ بالذكر هنا ظروف نشأة وتركيبة المجلس الوطني، ومن بعده الائتلاف، في ظلّ غياب الانتخاب الديمقراطي الذي يكرّس نوعاً من المشروعية في التمثيل، وقبول الحاضنة الشعبية، وفي التركيبة التي رجحت فيها اتجاهات معينة على حساب فئات أخرى يجب تمثيلها ووجودها.
3 ـ الرهان الأكبر على التدخل الخارجي لإنهاء النظام اعتقاداً أن ما حدث في ليبيا، بشكل خاص، وفي بلدان ثورات الربيع العربي، عموماً، سيتكرر ـ حكماً ـ في سوريا، وقد ولّد هذا الرهان مجموعة من الآثار والظواهر، وأبرزها:
آ ـ الاستعاضة عن الحاضنة الشعبية والعلاقة معها بحركات وعلاقات دولية تهدف إلى التعجيل بالتدخل، بما أوجد هوّة بين تلك الهيئات وبين الحراك الثوري راحت تكبر وتتعمّق مع مرور الزمن، ومع ما عرفته الثورة من “مناقلات” ومتغيّرات، كبروز العَسكرة ومفاعيلها.
ب ـ انعكاس ذلك الرهان على الحياة الداخلية في تلك الهيئات، والذي برز في تقصير فترة الرئيس لمدة شهرين فقط ضمن اعتقاد وجوب تداول أعضاء المكتب التنفيذي على ذلك الموقع تقديراً من أغلبهم أن الأمور قاب قوسين وأدنى من الحسم باتجاه نهاية النظام، وأثر ذلك على عملية الاستقرار، والصراعات التي خيضت والتي تظهر كمّ الخطأ في التقدير، وكمّ الرهان على الدور الخارجي.
ج ـ فتح ذلك الرهان أبواب التدخل الخارجي باتساع وازداد قوة وفعالية مع انتشار العَسكرة.
4 ـ العَسكرة وتداعياتها..
الثورة في جوهرها، وانطلاقتها كانت سلمية وشعبية، تطرح مطالب محقة لخّصتها بالحرية والكرامة والعدالة، وانتهجت المظاهرات سبيلاً للتحقيق بعيداً عن العنف واستخدام السلاح.
لكن تطورات متلاحقة دفعت لولادة، ثم طغيان العَسكرة وما أنتجت من وقائع تركت أثرها الكبير على مسار الثورة والمؤسسات القائمة.
لقد حاول النظام منذ البدايات تشويه الثورة باعتبارها حركة إرهابية، وإسلاموية، وأداة لمؤامرة خارجية، وأنها مصنّعة من قبل عناصر مرتبطة بالخارج، وعمل بتنهيج على حرف مسارها وتحويلها إلى صراع عسكري، أو وصفها بـ”الحرب الأهلية”، وقد استمرت الثورة لأكثر من ستة أشهر سلمية تواجه رصاص وعنف النظام بالصدور العارية والمطالب المحقّة، وترفض التسلّح، لكن مستوى العنف الذي مورس من قبل النظام في القتل والاغتيال والاعتقالات الجماعية، وترافق ذلك مع انشقاق عدد من الضباط العسكريين ممن رفضوا توجيه السلاح لصدور شعبهم، وتقدّمهم الصفوف لحماية المظاهرات فرض بدايات التسلّح الذي سرعان ما انتشر بقوة وسيطر على المشهد الميداني، ثم طغى على السياسي، وما عرفته تلك الظاهرة من تطورات كان في مقدمها:
آ ـ طغيان العسكري على السياسي درجة التهميش، وأثر ذلك على المؤسسات التي تمثل الثورة (المجلس الوطني ثم الائتلاف)، ووجود رأسين في الثورة، بل مجموعة رؤوس تعبّر عن ذلك التوسع الذي عرفته ظاهرة انتشار الفصائل، وغياب، أو ضياع القرار السياسي.
ب ـ حاجة العمل العسكري لإمكانات مالية ضخمة لم يكن بمقدور العامل الذاتي (الثورة والسوريين) تغطيتها فتحت الأبواب لأشكال من التدخل الإقليمي والخارجي تحت عناوين الدعم وتقديم مستحقات تطور العمل العسكري، وصولاً إلى تحكّم تلك الجهات بمسار وقرار معظم تلك الفصائل الممولة من الخارج درجة التبعية.
ج ـ انتشار الفصائلية بتلك الطريقة الغرائبية أدّى إلى التشتت، وغياب الاستراتيجية الموحدة، وعمليات التنسيق.
والأهم من ذلك استحالة توحيد تلك الفصائل عسكرياً، وتحت مظلة سياسية موحدة، ونعرف أن أحد أهم نقاط وثيقة ومبررات تأسيس الائتلاف كان في النصّ على “توحيد الفصائل العسكرية بقيادة سياسية”، بينما جرى تشكيل “هيئة الأركان” بعد فترة وجيزة من تأسيس الائتلاف دون علم، أو قرار منه، وما ترتّب عن ذلك من وجود جسم منفصل صعّب أكثر من عملية التوحيد، وفي إخفاق الجهود المتواصلة لتوحيد الفصائل وبناء علاقة لها مع الائتلاف، ثم في المسارات اللاحقة التي اتسمت بالتراجع والانزياح، خاصة بعد تدخل الاحتلال الروسي وما فعله.
د ـ ترافقت تلك العملية مع تهميش عدد كبير من الضباط المنشقين، وضمور وجود فصائل تابعة للجيش الحر على حساب نمو فصائل كثيرة بخلفيات وأسماء إسلاموية عملت على احتكار الثورة وفقاً لخلفيات أيديولوجية متناقضة مع أهداف الثورة التي قامت لأجلها، والتي لخصتها في شعاراتها، وأدّى ذلك إلى حدوث تغييرات كبيرة في مواقف الحاضنة الشعبية التي لم تقتصر على “المكوّنات” غير الإسلامية، وغير السنيّة وحسب، وإنما على قطاعات واسعة من الشارع السني.
ه ـ بوجود غرفتي “الموم” والموك وقيادتهما من قبل الدول، خاصة أميركا، بدأ التدويل الفعلي للمسألة السورية، ووضع القوى السورية ـ بكل جهاتها ـ على الهامش، أو بموقع التابع لإرادة تلك الدول، ثم التخلي عن الخيار العسكري لصالح “الحل السياسي”، وتأكيد مواقف تلك الدول الفاعلة بأنها لا ترغب بحسم عسكري يوم كان ذلك متاحاً، ويوم كانت الفصائل العسكرية تسيطر على أكثر من 70% من الأرض السورية.
5 ـ الحل السياسي.. وإخفاقاته..
حين أفصحت الوقائع عن رفض الدول الفاعلة للحسم العسكري، وفرضت الحل السياسي خياراً وحيداً وافق الائتلاف على بيان جنيف، وعلى الحل السياسي ضمن بنود ذلك البيان، ولو عبر صراع كبير داخله، ولجهة تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، ووفق جدولة زمنية مدتها 18 شهراً، تبدأ فيها المرحلة الانتقالية بعد ستة أشهر، تبيّن عبر جولات جنيف 2 أن النظام يرفض بالقطع أي خطوة سياسية ويعتبرها تنازلاً يؤدي إلى نهايته، وتلك حقيقة لم تكن مجهولة لجميع من يعرف بنية ونهج النظام، ورهانه على استهلاك الوقت، وإغراق جولات المحادثات في التفاصيل لزمن مفتوح، وهو ما حصل فعلاً.
لقد حصلت دحرجة في مسارات ومضمون المفاوضات، والانتقال من بيان جنيف إلى القرار 2254 التي تبدو فيه البصمة الروسية واضحة لجهة إشراك منصات أخرى في وفد المفاوضات، وضمور أساس بيان جنيف خاصة لجهة تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، ونتج عن ذلك أن الائتلاف لم يعد الطرف الوحيد في المفاوضات.
الائتلاف، ورغم الوقائع العنيدة لمسار المفاوضات، وقناعته الواضحة بعبثية جولاتها بغياب إرادة دولية فاعلة، ونخصّ بالتحديد الموقف الأميركي غير الحاسم والذي ما زال يتعاطى مع المأساة السورية بطريقة هامشية، فإنه، أي الائتلاف، مضطر للاستمرار في تلك الجولات غير المنتجة (تشاركه جميع أطراف المعارضة)، لأسباب متعددة في مقدمها أنه لا يملك خيارات بديلة، وأن أوراقه ضعيفة لا تسمح بممارسة الضغط المطلوب، ناهيك عن مواقف الأطراف الصديقة التي تلحّ على الاستمرار في المفاوضات.
6 ـ كان على الائتلاف من سنوات وسنوات أن يفكر بالبدائل، وأن يشرع في تجسيدها وفق برنامج واقعي ليس لأجل قرار مسبق بالانسحاب من المفاوضات، وإنما لتدعيم موقفه فيها من جهة، والقيام بخطوات موازية، ومناهضة لنهج وممارسات النظام من جهة أخرى.
ومن المعروف أن جوهر وأساس البديل هو العودة إلى الحاضنة الشعبية لاكتساب المشروعية منها، أولاً، وإشراكها في القرار ثانياً، وبناء أوسع علاقات وتحالفات مع القوى والفعاليات الشعبية والسياسية ثالثاً ، وقد تأخر الائتلاف كثيراً في خطواته تلك، وهو يحاول تدارك ذلك الخطأ الكبير ضمن برنامج طموح، وتغيير الخطاب الوطني بالتوجه إلى كافة شرائح ومكوّنات المجتمع السوري في مختلف المناطق، بما فيها تلك التي يسيطر عليها النظام، أو الواقعة تحت سلطات الأمر الواقع، وبناء علاقات مستدامة معها عبر تطبيق شعار التشاركية والاصطفاف الوطني.
في الذكرى العاشرة للثورة تفرض علينا الوقائع العنيدة أن نعمل بهديها، وهي التي تؤشر إلى الانسداد السياسي لجهة أي حلّ مقبول، وما يستوجبه ذلك من خطوات ضرورية وفي مقدمها إصلاح واقع ومؤسسات الائتلاف، وترسيخ التشاركية مع فعاليات شعبنا وفق مهام عملية قابلة للتحقيق، ومواجهة الاستحقاقات الصعبة بما تستوجبه من متغيّرات ضرورية في مختلف المجالات.