مفاهيم الثورة السورية.. تصفية من نوع آخر

نوفمبر 17, 2022

عامر المصطفى

مقالات

رافق تسلسل الأحداث خلال العقد الماضي تَغُّير كبير في المفاهيم والمصطلحات والحقائق في لغة الإعلام والصحافة، سواء الأجنبية أم العربية، حيث شهدت الأشهر الأولى من الربيع العربي زخماً إعلامياً قوياً رافقه تعاطف شعبي كبير تبعته مواقف دولية وإقليمية. لكن بمرور الوقت بدأ هذا البريق يخبو والزخم يتلاشى والمفاهيم تتغير في لغة الإعلام والخطاب السياسي. الأمثلة كثيرة جداً، ومنها مثلاً مصطلح “الثورة السورية” الذي أصبح نادر الاستخدام في وسائل الإعلام والخطابات الرسمية وحتى في بعض الأحيان في خطاب مناصري الثورة أنفسهم، حيث تم استبداله تدريجياً بمصطلحات ذات مدلول لغوي مُغاير تماماً، مثل “الحرب الأهلية” و”الأزمة السورية” و”الصراع السوري”. من الناحية اللغوية، هناك فرق كبير بين مصطلح “الثورة السورية” والمصطلحات الآنفة الذكر، فالأول يشير إلى حراك شعبي مُحق ضد نظام حكم مُستبد، بينما المُصطلحات الأُخرى تضع جميع الأطراف على صعيد واحد وتساوي بينهم. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبح النظام السياسي مع مرور الوقت “الحكومة السورية” بينما أصبح الثوار (في الإعلامين العربي والأجنبي) “ميليشيات المعارضة” أو “متمردين”، وهذا يقلب المعنى رأساً على عقب، فالنظام المُستبد أصبح حكومة شرعية، بينما من ثاروا عليه أصبحوا “متمردين” على “الشرعية”.

من الناحية العلمية، يتم هذا التغيير في المفاهيم عبر تأثير تراكمي تدريجي وخطوات ممنهجة من أجل الولوج إلى العقل الباطن والتأثير في رأي الأشخاص والمشاركة في هندسة مواقفهم. ويتضح معنى “التأثير التراكمي” من خلال دراسة عملية قام بها مركز أبحاث يتبع لوكالة رويترز على عينة من أولياء الأمور، حيث طُلب منهم مشاهدة وتقييم مشاهد غير لائقة (بدرجات متفاوتة) من أفلام سينمائية وتقدير العمر المناسب للطفل لمشاهدتها. في أول مقطع أفاد غالبية الآباء أن المشاهد التي شاهدوها يجب ألا تعرض لمن هم دون 17 سنة. مع توالي مشاهدة المقاطع بدأ سقف العمر في النزول، ومع آخر مقطع قال أولياء الأمور أن العمر المناسب لهذا المقطع هو أقل من 14 سنة والمفاجأة (حسب كلام الباحثين) أن كل المقاطع كانت من التصنيف نفسه من حيث درجة العنف والفجاجة، لكن معايير أولياء الأمور بدأت تتغير مع اعتياد هذه المشاهد، وهو ما يسمى التأثير التراكمي، ويقابل ذلك في حالتنا قيام الوسائل الإعلامية في نشر وإذاعة رسائلها لفترة زمنية ممتدة، وتكون مُركّزة في مضمون واحد؛ بحيث يكون بشكل دائم ومنظم.

وحسب علماء كثيرين (منهم فيركلاف وفاولر وفاندايك وسيمبسون)، تتمثل خطوات تغيير المفاهيم في ثلاث خطوات هي: Naturalization “التطبيع” (أي جعله طبيعياً)، وهي العملية التي تصبح فيها الإيديولوجيات جزءاً من الحياة اليومية والتجربة الاجتماعية اليومية، إلى درجة أن الناس لن يدركوا أنها أصبحت جزءاً منهم، وأنها أضحت افتراضات منطقية ومعتقدات مُسلّم بها. والخطوة الثانية هي Rationalization “التسويغ المنطقي” أو “التبرير”، ويحدث ذلك عندما تصبح الإيديولوجيات المهيمنة متأصلة في الممارسة الاجتماعية اليومية لدرجة أن الناس يبررونها كمعتقدات منطقية متماشية مع الطريقة التي تسير بها الأمور. أما الخطوة الثالثة، فهي Habitualization “التوطين أو التأصيل”، وهي عملية جعل المعتقدات الإيديولوجية والممارسات الاجتماعية بديهيات غير قابلة للنقاش أو النقد، وهذا ما حصل مع اللاعب المصري محمد أبو تريكة عندما عبّر عن رأيه فيما يخص “المثلية الجنسية” فواجه سيلاً من النقد اللاذع بسبب نقد شيء أصبح من “البديهيات” الآن، رُغم أنه كان من المحظورات حتى في المجتمع الغربي منذ فترة ليست ببعيدة. وتتم الخطوات الثلاث عبر عملية “إدارة المعلومات” Management of Information، وهي طريقة مُحكمة تُسهم في تدفق معلومات معيّنة بينما تحجب معلومات أُخرى.

تتضح الصورة أكثر إذا ما تم إسقاط التغيُّر الذي طرأ مؤخراً على المفاهيم والمصطلحات، ومنها المثال الذي تمت الإشارة إليه أعلاه، فمثلاً أصبح مصطلح “الأزمة السورية” طبيعياً مع تكراره مع الوقت، ثم بدأ التسويغ له وتصوير الثورة على أنها فعلاً أزمة، مع ذِكر “مبررات” على ذلك مثل “صعود المتسلقين” ومقارنة الأوضاع المعيشية قبل الثورة مع تردي الأحوال بعدها. مع الوقت، أصبح مصطلح “الثورة السورية” غير مرغوب به وحلت محله مصطلحات أخرى مثل “الأزمة السورية” و”الحرب السورية”، ومن ينتقد ذلك يُتّهم بكونه واهم ويريد أن يحجب شمس الحقائق بغربال الأوهام.

على الجانب الآخر، رافق تشويه الثورة تلميع واضح لصورة نظام الحكم في دمشق. فعلى عكس المثال أعلاه، تم استبدال المصطلحات السلبية (مثل الدكتاتور وجرائم النظام وغيرها) تدريجياً بمصطلحات إيجابية مثل “الرئيس السوري” و”الجرائم المُرتكبة من جميع الأطراف” بالإضافة إلى تحوُّل كبير في لغة الخطاب رافق عملية إعادة تدوير النظام وتطبيع العلاقات معه. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل طال التغيير مفاهيم كثيرة، وتم استحداث مسميات جديدة كثيرة، منها “المسلحون” و”المتطرفون” و”المتشددون”، بينما أصبحت نشرات الأخبار تُشير إلى ضباط ومسؤولي النظام السوري المُعاقبين أوروبياً وأميركياً على أنهم “أركان الدولة” أو “مسؤولي الحكومة”.

هذا التغُير في المواقف واللغة شمل منصات ومواقع وقنوات كثيرة، وقد يكون في بعض المواضع انجراف طبيعي مع التيار وليس ذو طبيعة إيديولوجية، فمثلاً هناك خبران للجزيرة أحدهما في 15 آذار 2011، عنونته الجزيرة بـ “الثورة السورية والشرارة اﻷولى انطلقت من دمشق 15 آذار2011″، بينما أتى خبرها بعد عشر سنوات، وتحديداً في 8 آذار 2021 على النحو التالي: “عشرة دروس قاتمة تعلمها العالم بعد عقد من الحرب في سوريا”، وسواء بقصد أم غير قصد، هناك فرق شاسع جداً بين الخبرين، فالثورة (معنى إيجابي مُشرق) أصحبت “درسا قاتماً يتوجب على شعوب العالم التعلم منه”!!

ومؤخراً، شهدت التغطية الإعلامية للحرب الروسية الأوكرانية استخدام مصطلحات ذات معان مختلفة عن تلك التي تم استخدامها عند تغطية القصف الروسي للمدن السورية. ففي 1 أكتوبر 2015، وصفت صحيفة الجارديان البريطانية العمليات الروسية بأنها “Intervention” (تدخل)، بينما وصفت العمليات الروسية في أوكرانيا على أنها “Invasion” (غزو)، وهناك فرق كبير جداً بين المصطلحين مع أن الجهة نفسها والفعل نفسه، لكن تغيرت اللغة تماماً باختلاف الضحية، وهذا التغُّير بدا جلياً أكثر عند تغطية نزوح اللاجئين الأوكرانيين الذي رافقه إفراط في الإنسانية لم يكن موجودا عند نزوح آلاف اللاجئين السوريين وغيرهم الذين تم تصويرهم في مواضع عديدة على أنهم تهديد لأمن أوروبا، أو على أقل تقدير سبباً لمشكلاتها الاقتصادية والسياسية.

إن التَغيُّر الكبير في طريقة تناول الثورة السورية داخلياً وخارجيا سيؤثر بطريقة ما في هندسة الرأي العام عبر هذا السيل المعلوماتي الغزير والضخ المستمر لمُسميات سلبية وتكرارها لتصبح واقعاً بمرور الوقت بحكم التأثير التراكمي في وعي الناس، وقد يطول هذا التأثير مناصري الثورة أنفسهم، حيث تكررت مؤخراً بعض المصطلحات السلبية في خطاباتهم ومقابلاتهم وأحاديثهم، ومنها ما ورد على لسان مدير أحد مراكز الدراسات المحسوبة على الثورة عندما قال في لقاء مع وفد أجنبيSo-called Syrian revolution  (أي ما يُسمّى بالثورة السورية)، وطبعاً هو تعبير سلبي جداً يُشكّك في ماهية الثورة بطريقة غير مباشرة، وقد يكون السبب وراء استخدام الرجل لهذا المصطلح هو سماعه الكلام ذاته عشرات المرات في الصحف الأجنبية فتأصّل في وجدانه دون أن يشعر، وبدا له كلام عادي مع الوقت.

إن عملية تغيير المفاهيم عملية حسّاسة ودقيقة جداً، وتحكمها مصالح وإيديولوجيات خفية، ولمواجهتها وفهم آليتها يجب أن يكون هناك وعي على المستوى الفردي يدعمه عمل مؤسساتي لتحليل ودراسة المحتوى الإعلامي ووقف أي شرعنة مقصودة أو غير مقصودة لقرارات أو أي تمرير لمُسميات ومفاهيم دخيلة (مثل مصلطح “العدالة التصالحية” الذي استخدمه بيدرسون تكريساً للمساواة بين الضحية والجلاد) تمس جوهر القضية السورية بشكل خاص والمجتمع السوري بشكل عام.

المصـــدر

المزيد
من المقالات