لم يكن رمضانها الأول في سجل الثورة السورية فمنذ دخولها الثورة من بابها الواسع في 24 من آذار 2011 لم تغادرها الدوريات الأمنية التابعة للمخابرات الجوية حتى منتصف 2012 . هذا الغياب الميداني للنظام ساعد على توسعة الحراك الثوري في المدينة فصارت المظاهرات أكثر تنظيماً، وانطلقت حملات التنظيف وتجميل الشوارع، وشاركت العائلات والنساء بالمظاهرات والاعتصامات، وكان لافتاً تحضير وجبات الإفطار الرمضانية في أغلب البيوت لتقدم لشباب الثورة والناشطين.
رمزت حملات التنظيف والتجميل لشوارع المدينة إلى استعادة حق المواطن بالمشاركة الحقيقية في إدارة شؤون بلده، فللمرة الأولى أصبح في دائرة الفعل، وخرج من دائرة الانفعال بالأوامر الأمنية والمراسيم والانتخابات الصورية لأعضاء مجلسها المحلي ،والذي اعتاد أهل المدينة على أن يكونوا من البعثيين والانتهازيين، وخاصة فريق المكتب التنفيذي أي دائرة صنع القرار ، لتكون البلدية بهيكلها الوظيفي خاضعة لأوامر القيادة السياسية والأمنية، تسعى لخدمة المتنفذين ولملء جيوب الأصوليين على حساب جماليتها وتنظيمها العمراني وحقوق أهلها.
هذا الحراك والشعور الجديد بالحرية رافقه الخوف والترقب ، فالنظام كان قد اقتحم مدناً كثيرة مرتكباً جرائم بحق المدنيين، فلماذا لا يكون هذا مصير داريا أيضاً؟ هذا السؤال لم يجد إلا جواباً (منطقياً ) واحداً وهو أن النظام غادر المدينة مؤقتاً، ليتمكن من تحديد القوى الفاعلة في الحراك المدني ولتقييم قوة حراكها المسلح ، ليقوم بالاقتحام بالقوة والتوقيت المناسبين، بعد أن يعيد السيطرة على المناطق المجاورة والتي كان على رأسها حي القدم حيث كانت تدور اشتباكات شبه يومية. وكان غالباً ما يشيع الشهداء بعيد صلاة الفجر في مدينة داريا نظراً لأن مقبرة حي القدم كانت مرصودة نارياً من قبل النظام.
منذ الأيام الأولى للثورة ارتقى العديد من المتظاهرين شهداء على يد قوى الجيش وأجهزة الأمن ، ورغم دعوات المتظاهرين والشعارات التي طالبت الجيش والأمن بعدم استهداف السوريين ، والتأكيد على دور الجيش بأنه”حماة الديار” وهو اسم مظاهرة 27-أيار-2011. إلا أن النظام استمر بجريمته .مما دفع بعض الثوار وأهالي الشهداء لحمل السلاح، الذي شكل في البدايات رادعاً عن مهاجمة المظاهرات ، فلم يعد النظام بوارد إرسال دوريات صغيرة وسريعة لمهاجمة المظاهرات بل يتم الرد عن بعد من خلال قصف متقطع بالهاون على أحياء المدينة وهذا كان ملاحظاً برمضان 2012 بعيد المظاهرات الليلية اليومية .
كان عدد من حمل السلاح، محدود وأغلبهم ليس لديه خبرة كافية، فعدد قليل جداً ممن انشق عن جيش النظام استطاع العودة للمدينة ، كما أن عدد المتطوعين من أبناء المدينة في جيش النظام سابقاً لايتجاوز العشرة أشخاص، هذه المحدودية ناجمة عن المنهجية المتبعة من نظام الأسد الأب ومن ثم الابن ، والمتمثلة بزيادة مشاركة الطوائف بالجيش على حساب السنة، ووضع الضباط من خارج الطائفة العلوية في مواقع غير قيادية وهامشيةً ، كالتدريب الجامعي والشؤون الإدارية . يضاف لهذا السبب الرئيس ، غنى المدينة النسبي وبالتالي لايشكل الراتب -المنزوع من السلطة- إغواء كافياً للالتحاق بجيش النظام.
تم إحكام الحصار بالتدريج على مدينة داريا فإضافة لحواجز التفتيش على الطرق الرئيسة المؤدية إلى المدينة، وضعت حواجز على الطرق الفرعية، ونشرت حشود المشاة والمدرعات على محيطها. هذه التطورات دفعت العديد من العائلات، وخاصة التي كانت تقيم بداريا من غير أهلها إلى مغادرتها، ولكن مع إحكام الحصار ب 20 آب،2012 وانتشار القناصين على الأبنية العالية وخزانات المياه الموجودة على مداخل المدينة، لم يجد أحد سبيلاً للخروج فتيقن الجميع أن النظام سيقتحم المدينة.
صباح يوم الجمعة 24 من آب 2012 زادت حدة القصف فلجأ سكان الأحياء إلى الأقبية المتاحة في بعض الأبنية، ولم تقم صلاة الجمعة بسبب القصف في ذلك اليوم، وقبيل الساعة الرابعة عصراً تم البدء باقتحام الأحياء الشمالية في المدينة، إلا أن عدم وجود الخبرة الكافية، وبساطة الأسلحة ومحدودية العدد، أدت إلى انسحاب حملة السلاح من المواجهة أمام قوات النظام المدججة بالسلاح دون إبداء أي مقاومة تذكر، وذلك منذ الساعات الأولى لعملية الاقتحام.
كان ملاحظاً تركيز قصف الهاون ورشاش الحوامات على الحي المراد اقتحامه، وبعد توقف القصف، تبدأ مجموعات المشاة المزودة بأسلحة خفيفة ومتوسطة عملية تمشيط الأحياء وتفتيش المنازل ، وإخراج العائلات من الأقبية، والتدقيق على البطاقات الشخصية، ومن بعدها تنفذ إعدامات ميدانية، القوى المقتحمة التي ترتدي لباسا عسكريا لم تكن تضع الرتب بل شرائط ملونة على الذراع ، تنوع الأعمار وطريقة الخطاب المستخدم بين أفرادها سمح بتمييز الضباط عن العناصر (الأفراد).
العجز والخوف والهلع غمر الجميع ، الآباء والأمهات حملوا أطفالهم بمحاولة يائسة لإحياء إنسانية القاتل، كان الأكثر رعباً هم الجرحى الذين أصيبوا بالليلة السابقة بشظايا قذائف الهاون، فكان من عادة النظام أن يجهز على المتظاهرين الجرحى الذين يسعفون إلى المشفى الوطني وذلك بالأيام الأولى للثورة.
تم ارتكاب أكبر المجازر في الأحياء الجنوبية للمدينة، وذلك في يومي السبت والأحد 25-26 من آب 2012 حيث تمت إعدامات جماعية للجرحى على أسرتهم، وإعدامات بمواجهة الجدار ،أو من خلال إطلاق نيران الرشاشات المتوسطة، من النوافذ العلوية للأقبية لتفتك بدون تمييز بالمختبئين من نساء وأطفال ، انسحبت القوات الغازية يوم الإثنين 27 من آب 2012إلى حدود المدينة ،خرج الناس من أقبيتهم، يتفقدون أهلهم وجيرانهم، يدفنون شهداءهم بمقابر جماعية ويعزون أنفسهم ،كان الذهول بادياً على وجوههم من حجم الجريمة!
أراد أبناء داريا كغيرهم من السوريين من خلال ثورتهم، استعادة وطنهم الذي تحول إلى مزرعة بعهد عائلة الأسد ، لبشار وحده حق التصرف بها وبمن عليها، وحين تعذر إخماد الثورة باستخدام العنف “المحدود”، لجأ النظام إلى أكثر أدوات القمع ترهيباً ودموية، حيث ارتكب هذه المجزرة الكبرى في مدينة داريا في آب 2012 والتي ارتقى فيها أكثر من سبعمائة شهيد منهم مايقارب مائة وخمسون إمرأة وطفلا، وعشرات الجرحى و المفقودين.
إن إفلات نظام الشر من المحاسبة على جرائمه، أدى إلى نشوء حركات راديكالية تستخدم الإرهاب وسيلة لتحقيق أهدافها، وهذا صب بمصلحته تماماً ،حيث ظهر أنه أهون الشرين، أمام دول الجوار والدول الفاعلة، وبعض مكونات المجتمع السوري، ولكن حقيقة الأمر أنه أصل الشرور، وإفلاته من المحاسبة سيشجع على استمرار الدكتاتوريات الحالية في المنطقة وتحالفها مما يشكل تهديداً للسلم العالمي.