ما شهدته مدينة حلب من انقسام إلى شطرين خلال سنوات الحصار لم تعشه مدينة سوريا أخرى خلال الثورة، لقد انقسمت المدينة إلى شرق وغرب أشبه ببرلين خلال سنوات الحرب الباردة أو نيقوسيا في قبرص، حلب كانت عاصمة الشمال وأصبحت رمزاً للحرب السورية ولوحشية نظام الأسد وهمجيته.
لقد شهدت مدينة حلب في الفترة بين عامي 2012 و2016 ً قتالا ً كثيفا على مدى أربع سنوات بين الحكومة السورية وجماعات المعارضة المسلحة، انقسمت المدينة خلاله إلى شطرين: الشطر الشرقي وكانت تسيطر عليه جماعات المعارضة المسلحة، والشطر الغربي وكان تحت سيطرة الحكومة. وفي 7 يوليو/تموز 2016، بدأت الحكومة السورية محاصرة الشطر الشرقي من مدينة حلب، بما فيه من مدنيين ُقِّدَر عددهم بما بين 250000 و275000 شخص، غالبيتهم العظمى مدنيون، وتقييد حصولهم على الغذاء، والدواء، وغيرهما من الإمدادات الضرورية. قدر ما فرضت القوى المعارضة حصارًا اقتصاديًا محكمًا على القسم الغربي في مدينة حلب للحيلولة دون تسرب المواد الغذائية والطبية المتوفرة لديها إليها.
وقد دفع تدهور الظروف الإنسانية والقصف الشديد جماعات المعارضة المسلحة إلى الخضوع في نهاية الأمر والتفاوض مع النظام، وبدأت المفاوضات، في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2016ِ وأجرَيت عن بعد بين حركة أحرار الشام الإسلامية وممثل عن روسيا. وفي 13 ديسمبر/كانون الأول، جرى التوصل إلى اتفاق بين الجانبين يتضمن إخلاء جميع مقاتلي الجماعات المسلحة إلى شمال محافظة حلب. ولم تتطلب شروط الاتفاق خروج المدنيين، لكن الغالبية العظمى من السكان الذين كانوا في المنطقة في ذلك الوقت ُوقِّدَر عددهم بقرابة 37000 شخص، اختاروا النزوح بسبب الأهوال التي تعرضوا لها في الأشهر السابقة، فضلا عن التشكيك في وعود الحكومة بضمان سلامتهم. وهو ما ركز الأنظار على استراتيجية الأسد في عمليات التهجير القسري بوصفها جرائم حرب لأنها تتم ضد رغبة السكان المدنيين وإرادتهم.
وعلى الرغم من أن مجلس الأمن تجنب استخدام تعبير “التهجير القسري ” forced displacement وفضل استخدام مصطلح الإخلاء أو الإجلاء “Evacuation” وذلك تحت تأثير ضغوط روسية، حيث أشار القرار 2382 إلى المطالبة بالرفع الفوري عن الحصار عن المناطق المأهولة بالسكان وعبر عن جزعه من ” استمرار تدهور الحالة الإنسانية المؤلمة في حلب ومن أن عددا كبيراً من سكان حلب قد أصبحوا حاليا بحاجة إلى عمليات الإجلاء وتقديم المساعدة الإنسانية على وجه الاستعجال”، ، وطالب بأن تتوقف الأطراف عن حرمان المدنيين من الأغذية والأدوية الأساسية، وتمكين منظمات الإغاثة من “الإجلاء السريع والآمن ومن دون عوائق لجميع المدنيين الذين يرغبون في المغادرة”، لكن التعريف القانوني لما حدث في حلب هو التهجير القسري فهذه الجريمة تعدُّ راسخة بموجب القانون الدولي. “إذا تم إخبار المدنيين بأنهم يجب أن يغادروا أو أنهم يخاطرون بتعرضهم للاستهداف من قبل القوات العسكرية، فإن ذلك يعد بمثابة تهجير قسري”، كما أن “القوة” في النقل القسري لا تقتصر على القوة البدنية. إذ إنه يشمل تهديدات بالقوة أو الإكراه، أو الخوف من العنف أو الإكراه”.
تميزت حملة الأسد في شرق حلب بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفي النهاية أجبر النظام بدعم من روسيا الفصائل المسلحة على “إخلاء” شرق حلب. بما حولها إلى حالة خراب بالمعنى الحقيقي للكلمة. فقد جرى تطهير حلب الشرقية من غالبية من تبقى من سكانها، حيث قامت القوات الموالية للنظام بقصف حلب الشرقية لمدة أربع سنوات، وبادلتها القوات المعارضة باستهداف قصف الأحياء الطرفية في المدينة وبلغت ذروتها في الحصار الوحشي. وإثر حصار قاس استمر نحو سنة كاملة أجبرت الجماعات المسلحة المتبقية على توقيع اتفاق “إجلاء” كما اعتادت القوات الحكومية والروسية وصفه بل جرى استخدامه في قرار مجلس الأمن 2328 المخصص عن حلب، نتج عنه تهجير كل السكان لقد جرى تطهير شرق حلب بشكل كامل من سكانها في عملية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشرق الأوسط الحديث.
ففي 5 ديسمبر / كانون الأول 2016، قُدم قرار من مجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف إطلاق النار لمدة سبعة أيام في شرق حلب من قبل نيوزيلندا وإسبانيا ومصر، لكن روسيا والصين عارضته. وكمقترح مضاد، في 6 ديسمبر / كانون الأول 2016، عرضت جماعات المعارضة المسلحة في شرق حلب صفقة من ثلاث نقاط تدعو إلى هدنة إنسانية لمدة خمسة أيام، والإخلاء الطبي لخمسمئة شخص، وإجلاء المدنيين إلى ريف حلب الشمالي، وكذلك “إطلاق مفاوضات بين الفاعلين المعنيين بشأن مستقبل حلب”. لكن الحكومة السورية رفضت أي عرض تحت ضغوط روسية وبحلول السابع من كانون الأول (ديسمبر)، كانت قوات الحكومة السورية المشكلة بشكل رئيسي من ميليشيات لبنانية كحزب الله وميليشيات عراقية وقوات الحرس الثوري الإيراني تسيطر على حوالي 75 في المئة من المنطقة التي كانت تحت سيطرة المعارضة. في اليوم التالي، قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر العربي السوري برحلة محفوفة بالمخاطر إلى مستشفى دار الصفاء، في البلدة القديمة، لإنقاذ 150 شخصًا عالقين في القتال. كانوا يحتمون فيما كان في الأصل منزلاً لكبار السن، ولكنه توسع لرعاية المرضى الذين يعانون من احتياجات الصحة العقلية أو الإعاقات الجسدية كذلك. كما كان هناك عشرات من المدنيين يحتمون هناك.
بلغت التقديرات النهائية للجنة الدولية للصليب الأحمر في 23 ديسمبر/ كانون الأول أن حوالي 34،000 شخص قد غادروا شرق حلب. اكتمل “الإخلاء”. وذكرت منظمة الصحة العالمية أنه “في المجموع، تم تحويل 811 مريضا إلى مستشفيات في غرب حلب وإدلب، بما في ذلك 100 امرأة و150 طفلا تقريبا. ومن بين هؤلاء، تم نقل ما يقرب من 100 مريض يحتاجون إلى رعاية متخصصة إلى مستشفيات في تركيا. تم إحالة المرضى الآخرين إلى 8 مستشفيات في ريف حلب الغربي وإدلب. وذكر الدكتور ديفيد نوت، الذي عالج بعض الأشخاص الذين تم إجلاؤهم في إدلب: “بدا كأنهم يخرجون من معسكر اعتقال. ليسوا مصابين فقط ولكنهم يعانون من الجفاف وسوء التغذية والصدمات النفسية”. وقد تم تقسيم أولئك الذين تم إجلاؤهم بين ريف حلب الغربي، جبرين، غرب مدينة حلب الذي ما زالت الحكومة السورية تسيطر عليه.