غالباً، في الثورة، تمتد العاطفةُ على مساحة أكبر بكثير من مساحة العقل. نسوغ هذا الأمر إذا علمنا أن الشاب الثائر يخرج من بيته في الصباح واضعاً دمَه على كفه، ولا يدري إن كان سيعود في المساء، أم سيبيت في قبو فرع أمن، أو على سرير في مشفى، أو في المقبرة.
بسبب هذه العواطف، والانفعالات المستنفرة دائماً، كان الثوار ينظرون إلى أي شخص يتصرف بروية وتعقل، حتى ولو كان ثائراً مثلهم، بشيء من الارتياب، وهذا الأمر حصل معي أكثر من مرة، خلال اشتراكي في الثورة على الأرض، ابتداء من آذار 2011 وحتى أواسط آب 2012..
في الأسابيع الأولى للثورة، حاولتْ جهاتٌ حزبية وأمنية في محافظة إدلب استمالةَ بعض الشخصيات المشاركة في الثورة، بقصد أن يفتحوا معهم خطاً يتمكنون من خلاله تهدئة الأوضاع فيما لو تأزمت. وأذكر أنهم، قبل تسلح الثورة في مدينة إدلب، عندما كان أحدُ الألوية العسكرية المدرعة متمركزاً في قرية “الرامي” استعداداً لاقتحام جبل الزاوية، وخلال التحضير للاقتحام طلبوا من بعض ثوار مدينة إدلب أن يذهبوا إلى الجبل، ويفاوضوا المسلحين هناك بأن يلقوا سلاحهم، مقابل أن يمتنع اللواء عن اقتحام الجبل، ولكن أولئك الثوار اعتذروا عن القيام بهذه المهمة قائلين إننا، أولاً، لا نعرف إن كانوا مسلحين كما تزعمون أم لا، وثانياً، هذا الأمر يخصهم، فلماذا لا تتفاوضون معهم مباشرة؟
المهم بالنسبة إليّ.. مع أنني لست متطرفاً بطبعي، إلا أن عقلي كان يقول لي إن الابتعاد عن هذه الجهات عين الصواب، وكنت أسأل مَن يحاورني في ذلك:
– هل يعقل أن نثور على النظام ونبقى على صلة مع الأشخاص الذين يمثلونه؟ هذا تناقض.
الشيخ “سعيد حبوش” كان ثائراً عنيداً، ومخلصاً، ومع ذلك ارتأى أنه لا شيء يمنعه من أن يقيم علاقة شخصية بقائد اللواء المكلف بقمع ثورة محافظة إدلب، وبعض أعضاء فرع الحزب، فبزعمه أنه يستطيع، من خلال هذه العلاقات (شبه الدبلوماسية)، أن يخلّص الثوار الذين يقعون بين أيدي رجال الأمن خلال المظاهرات، وكان ذلك يحصل بالفعل، يعني أنه لم يكن مخطئاً تماماً.. ولكن، في يوم من الأيام من شهر شباط 2012، على ما أذكر، كنت أزور
صديقي تاج الدين الموسى في مشفى الهلال (كان يعاني من أزمة رئوية)، وجيء بالشيخ سعيد حبوش وقد أصيب برصاصات أطلقها عليه رجال الأمن خلال محاولته سحب ثائر جريح سقط في إحدى المظاهرات، وخلال يومين مات.
في الثورات، مع ذلك، لا يفيد الحذر، وسرعان ما تُنسى الاحتياطات التي يقودك عقلك لاتباعها، بدليل الواقعة التي سأرويها لكم الآن.
خلال الأشهر الأولى من الثورة، أصبحتْ بلدةُ معرتمصرين، مسقطُ رأس محسوبكم، خارجَ سيطرة النظام، وأما مدينة إدلب فقد خرج نحو 75% منها عن السيطرة، وبقي النظام متمركزاً ضمن ما عُرف باسم “المربع الأمني”، ويشمل أماكن وجود فروع الأمن، وفرع الحزب، والشرطة العسكرية، وكنت، أنا محسوبكم، أتنقل بين المدينتين بحسب مقتضيات نشاطي الثوري.. وذات صباح باكر، وأنا نائم في معرتمصرين، استيقظنا على أصوات قذائف مدفعية كانت تنهمر على البلدة النائمة. لم نخرج، أنا وشقيقي دريد، من البيت حتى الصباح، وقمنا بجولة على أماكن سقوط القذائف. لم يكن هناك قتلى، بل وقعت أضرار مادية، وأصيب بعض المواطنين بجروح.
كان موضوع القصف جديداً على الثوار، وعلى الأهالي بالطبع، ولذلك فإن الرعب كان يستوطن في وجوه الناس الذين رأيناهم في شوارع البلدة.. ومر ذلك اليوم، والذي يليه والناس قلقون متوترون، وفي اليوم الثالث عاد القصف، ولكن نهاراً هذه المرة، وقُتل شابان، وجرح آخرون، وبدأ الناس يجمعون بعض حاجياتهم وينزحون عن البلدة، وخلال أقل من أسبوع لم يبق في معرتمصرين سوى ربع سكانها، وأنا حذوت حذو الآخرين، وسافرت إلى حلب، وأقمت هناك قرابة أسبوعين، كنت أتصل، يومياً، بمنزلي في إدلب، وأسأل عن الأخبار.. وذات يوم، اتصلت، فأخبرتني زوجتي أن أمين فرع الحزب اتصل، وسأل عني، وترك لي رقم مكتبه الخاص، وقال لها:
– ليت أبو مرداس يتصل بي لأمر ضروري.
أخذت الرقم من أم مرداس، واتصلت بأمين الفرع من موبايلي، (وكان بيننا مودة من قبل) فرحب بي، وقال إنه اختارني من بين الجميع لأنني، كما يعرفني، إنسان عاقل، وعرض عليّ الفكرة الآتية: أن تُزال السواتر الترابية من مداخل معرتمصرين، وتُخلى الدوائر الحكومية التي احتلها الثوار وجعلوها مقارَّ لهم، مقابل إيقاف القصف على البلدة، وأضاف أنه يضمن لي وقف القصف، لأنه تحدث مع قائد اللواء بذلك قبل أن يتصل بي.
قلت له إنني لا أستطيع القيام بهذا العمل دون التشاور مع أهل البلدة والشباب الثائرين الذين صنعوا السواتر واحتلوا المقارّ، فأنا رجل أعزل.
كان المجيء من معرتمصرين إلى حلب يتطلب مني سلوك طريق غاية في التعقيد، لئلا أقع في قبضة أيّ من الحواجز الأمنية، باعتبار أنني مطلوب. كنت أسافر من معرتمصرين إلى سرمدا، فالدانا، فـ قَسْرَطون، فـ هوتة عين جارة، فـ عرب فطومة، وأدخل مدينة حلب عبر طريق يذهب من فوق الجسر باتجاه الحمدانية، وينزل تحت الجسر حيث توجد فتحة ترابية توصل إلى مشروع الـ 3000 شقة، ومنه، عبر طرقات ملتوية إلى حلب الجديدة حيث ثمة منزل أقيم فيه. وكانت العودة من حلب إلى معرتمصرين تمر بالتعقيدات نفسها، ومع ذلك فقد وضعت حقيبتي الصغيرة واللابتوب في الباكاج، وغَرَّبت. وقبل أن أدخل معرتمصرين مررت بأحد أركان الثورة، اصطحبته معي، وذهبنا إلى الجامع الكبير، وطلبنا من الشيخ أن يسمح لنا بإذاعة نداء عبر مكبرات الصوت، لدعوة مَن تبقى من أهالي البلدة للاجتماع بهم عند مقر مديرية الناحية القديمة.
اجتمعنا بهم، وأنا محسوبكم، صعدتُ فوق سور مرتفع بحيث أتمكن من مخاطبة الناس، وحكيت لهم، بالعامية المحلية (فأنا أمقت لغة الخطابات)، ما جرى معي، بحرفيته، وقلت لهم: القرار لكم.
عندما يصوت مجلس الشعب على قرار ما بالإجماع، كنا نسخر منه، وأما موافقة الناس على الهدنة، في ذلك اليوم، فقد كان إجماعاً حقيقياً، إنسانياً، نبيلاً، مبنياً على الرعب من القذائف، ولا سيما أن هؤلاء الناس الباقين في البلدة، لا يوجد لديهم مكان آمن ينزحون إليه.
بعد هذا الاجتماع أجرينا جولة على أصحاب القرار المتعلق بإزالة السواتر وإخلاء المقارّ، واحداً واحداً، وحكينا لهم ما جرى، فوافقوا، وأنا اتصلت بأمين الفرع وأبلغته بموافقتنا على الهدنة. والهدنة تمت بالفعل، وعاد الأهالي النازحون إلى ديارهم، بل لقد أصبحت معرتمصرين ملاذاً لمن ينزحون من مدن وبلدات تتعرض للقصف.
ومع ذلك، كان بيننا شاب هتيف (يهتف في المظاهرات)، أمسك الميكروفون وقال:
– في ناس عم يتواصلوا مع النظام. اللي بده يتواصل مع النظام بدنا نعلق مشنقته هون!
همست لصديق كان بجواري: هادا مين بيقصد؟
فابتسم وقال لي: بيقصد حضرتك!
قلت له وقد راودني شيء من الخوف:
– كنت مفكر إن مبالغتي بالحذر بدها تحميني من سوء الفهم.
قال: هادا تهديد فاضي، لا تخاف. ويكون بعلمك كل الناس مبسوطين لأن توقف القصف.