خلقت الثورة حقلا جديدا في ممارسة الوعي، ومن أهم معالمه البدء بتحطيم ثقافة الأجوبة التي فرضها نظام الأسد.
في كتابه “الربيع العربي: من الولادة إلى الأسئلة” ـ الصادر عن دار ميسلون للطباعة والنشر والتوزيع 2018 ـ يتناول أحمد برقاوي الربيع العربي بشكل عام والربيع السوري بشكل خاص، ليأتي الكتاب موزعا على فصول عديدة قد لا يبدو بينها ترابط في الشكل، لكن بينها سيرورة فكرية واحدة تنظر إلى الأحداث السورية في إطار فلسفة التاريخ.
يميز برقاوي بداية بين ثلاثة أنواع من الوعي: الوعي المطابق، الوعي الزائف، الوعي الخاطئ، فيعتبر أن الثورة هي تعبير عن تطابق الوعي والواقع، حيث ذهب الوعي مباشرة إلى فكرة الحرية والمجتمع الديمقراطي.
قوبل الوعي المطابق بوعي زائف من قبل النظام عندما ستر حقيقة وعمل على تزييف الواقع، وفي الوقت الذي تحرك فيه الوعي المطابق في حقل مفاهيم الديمقراطية والعدالة والمجتمع المدني، تحرك الوعي الزائف في حقل مصطلحات المؤامرة والممانعة وحماية الوطن.
في إطار هذين الوعيين برز الوعي الخاطئ لدى حدي الصراع، وهو وعي يظن صاحبه أنه على صواب، هكذا ظن النظام أن استخدام العنف هو الوسيلة المثلى لوأد التظاهرات، وهذا الوعي الخاطئ أدى إلى تحويل الثورة من السلمية إلى العسكرة.
بالمقابل، ساد وعي خاطئ لدى المعارضة أيضا، تمثل في أن تجربة التخلص من القذافي قابلة للتحقق في سوريا.
في إطار فلسفة التاريخ
ليست فلسفة التاريخ عودة إلى التاريخ، بل الكشف عن ملامح حركة التاريخ ومعنى التجربة التاريخية، فما هو مشترك بين بلدان الربيع العربي عام 2011، كان أن الدول الخمسة (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا) هي دول مؤسسة على احتكار القوة العسكرية والأمنية، وهذه الدول جميعا أزالت الحد الفاصل بين السلطة والدولة، وتشكلت في هذه الدول عصبيات مناطقية وأسروية، مع تباين في الحالات بين هذه الدول.
إن السلطة في هذه الدول مارست احتقارا شديدا للتاريخ، ولم تكن مفهومات التاريخ والتطور والتغير وروح العالم جزءا من وعيها بالعالم، لقد كانت مكتفية بجمهور من الدهماء.
أسست القوة المحتكرة من قبل نظام الأسد على جملة أعمدة: الاستيلاء على القوة العسكرية والتحكم فيها، والاستيلاء على أجهزة الأمن، والتحكم في أجهزة الإعلام، وإفراغ المجتمع من أية قوة ممكنة، تحطيم القوة الأخلاقية القائمة، الاعتماد على عصبية طائفية أساسية.
بوجود هذه الأعمدة، تشكلت استراتيجية من شقين: الأول، الحيلولة دون ظهور أي إمكان تمرد بما يعني ذلك من تحطيم المجتمع المدني، والثاني متعلق بمواجهة التمرد.
الثورة والهوية
من مميزات المراحل الثورية أن جميع الهويات تنفجر، لكن برقاوي يركز هنا على هويتين فقط، الهوية النائمة والهوية المتخفية، الأولى ضعيفة وإلا لما غفت أصلا، وما كانت لتغفو إلا لأن هناك هوية أقوى قد احتلت المنزلة، وتنتمي الطائفة السنية إلى هذه الهوية بخلاف الأقليات التي تمتلك وعيا شديدا بهويتها، والثانية هي هوية المثقفين، وهي هوية حاضرة في الوعي ومتخفية بفعل إرادي وعبر قول غير طائفي، وهنا تكمن الخطورة، لقد كانت الهوية المتخفية تمارس التقية عن عمد، ولكنها في الوقت نفسه كانت سعيدة بانتمائها الطائفي.
ما إن قامت الثورة، صار لزاما على المثقفين أن يتخذوا موقفا علانية، وما عادت الهوية المتخفية قادرة على التخفي، فأعلنت حقيقتها بوصفها جزءا من النظام، بحجة مواجهة المد الإسلامي.
في المقابل، راحت الهوية السنية التي كانت نائمة، تعلن عن نفسها بنوع من الحقد القاتل، كي تنتقم من إخفائها، وهكذا أصبحت هناك هويتان، مستيقظة ومتخفية، وكلتاهما هويتان مقاتلتان، لا وجود لديهما لفكرة التسامح لزمن ليس بقصير.
لقد ولد السوري مع ولادة الدولة السورية، فالسوري بوصفه هوية، فإن هويته السورية لاحقة، تأتي بعد وجوده، كانت سوريا فكرة في وعي نخبة فكرية ـ سياسية في بلاد الشام أثناء طرح اللامركزية، بوصفها نظاما ملائما للإمبراطورية العثمانية.
لم تكن الهوية المرتبطة بالجنسية ثمرة المشيئة الحرة للسكان، بل فرضت عليها، وصارت مع الأيام هوية موعى بها، ولم تستطع الإيديولوجيا القومية العربية أو الإسلامية أن تأتيا على شعور السوري بهويته الوطنية، لأنها هوية ارتبطت بالحياة العملية.
مع انطلاق الثورة وسيرورتها انفجرت الهويات كلها، بما في ذلك الهويات الأخلاقية، وبدأت نقاط ضعف الهوية السورية تظهر للعيان أمام الهويات المذهبية الطائفية والهويات الإثنية والمناطقية، وهكذا انفجرت كل براكين الهمجية غير المتوقعة، من بركان همجية النظام.
ظلت الأكثرية السورية ذات هوية سورية خلاصية في حدود سوريا الراهنة ومع نظام سياسي يعبر عنها، إن ما جرى على الأرض هو محاولات من قبل النظام لتحطيم الوجود السوري ذي الهوية السورية، حتى يسهل عليها البقاء كهوية ضعيفة.
إذا، فالصراع يقول برقاوي هو بين الوجود السوري الأكثري الساعي للمحافظة على الهوية ذات السلطة الديمقراطية المعبر عنها من جهة، وهويات ما دون الهوية السورية، مثل الهويات السلطوية والطائفية والإثنية والدينية من جهة ثانية.
لقد خلقت الثورة نوعا جديدا من التناقض الهوياتي، فالهوية الطائفية هي هوية سياسية مؤسسة على هوية أنثروبولوجية نائمة، ومن ثم فالمصلحة السياسية هي التي صنعت الهوية الطائفية لدى السلطة، حتى صار توزيع المناصب يخضع لأساس طائفي.
في مستوى الوعي الشعبي والعلاقات المعشرية في سوريا، ليس هناك تناقض إثني أو طائفي بالأصل، لذا، فإن افتعال تناقض هوياتي شعبي هو فعل سياسي وليس واقعة مجتمعية ـ تاريخية.
مثقف الوسخ التاريخي
كتب كثير من الفلاسفة والمفكرون عن المثقف ودوره، بدءا من غرامشي الذي ميز بين المثقف التقليدي المنتمي إلى المعرفة المسبقة والعالم القديم، وبين المثقف العضوي المنتمي إلى الجماعات والطبقات والمدافع عن مصالحها.
وإلى هذا التمييز، يذهب أيضا جان بول سارتر وغيره، فثمة مثقف ملتزم بقضايا الناس، وآخر غير مكترث بهذه القضايا.
لكن، لم يتحدث أحد من هؤلاء الفلاسفة عن المثقف الوسخ التاريخي بسبب أن خيالهم لم يصل بهم لتصور وجود هذا النوع من المثقف الذي ظهر معاديا لتجربة الكفاح السورية من أجل الحرية ودولة المواطنة، يقول برقاوي.
مثقف الوسخ التاريخي، لا هو بالمثقف التقليدي ولا هو بالمثقف غير الملتزم، ولا هو بالمثقف اللاأخلاقي، بل هو نمط من المثقفين الذين لا مثيل لهم في تاريخ الثقافة، فهو المدافع عن أحط الممارسات المعادية للإنسان، وصار إلى أعلى درجات الانحطاط الأخلاقي.
إن المثقف الوسخ التاريخي السوري، ومن هو في حكمه من العرب، لم يخن ما يجب أن يكون عليه المثقف من حيث ماهيته مدافعا عن الحق والحقيقية وقيم الإنسان ووجوده الحر فحسب، بل خان صورة المثقف النقيض الذي لم يتصور أحد أن يصل به الأمر إلى هذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي.
في الطائفة والطائفية
في هذا الفصل يناقش برقاوي عملية الانتقال من الطائفة إلى الطائفية إلى العصبية الحاكمة، وهي ظاهرة تعتبر حديثة في بلدان المشرق العربي.
ما يحتاج إلى نظر ليس الطائفة، لأنها معروفة تاريخيا من حيث أصولها ومعتقداتها وقيمها، بل ما يحتاج إلى نظر هو الطائفية، وهي بالتعريف نزعة تعصبية للطائفة، وكل نزعة تعصبية هي بالضرورة نزعة إقصائية للآخر سرا أو علنا.
في حال انتقال التعصب الطائفي إلى النظام السياسي الحاكم، فإن تحطيم العقل والمجتمع يحفر مجراه ببطء داخل جسد المجتمع، ليصل إلى مرحلة التدمير الشامل للحياة.
تشهد بلاد الشام والعراق ومصر حركة نكوصية غير معقولة، لأنها غير متوقعة في الإطار التاريخي كونها البلدان الأسبق في الحداثة في المنطقة العربية.
إن العصبية الطائفية ليست عصبية متدينة بالضرورة، فكثير من العلمانيين السنة تحولوا إلى طائفيين، وكثير من العلويين من غير المتدينيين هم طائفيون، إذ لا تعصب ديني عند العلويين.
الطائفية، هي نظام السلطة السياسي وهي أساس الهويات في مناطق منعزلة ومناطق جرى تجميعها عشوائيا من قبل الفرنسيين.
يخلق الانتماء إلى الطائفة موضوعيا، أنماطا من السلوك والنظرة إلى العالم بفعل عامل التربية والأسرة، حتى لو كان لا شعوريا، ووفق هذا المعنى، فالانتماء إلى الطائفة ذو بعد هوياتي.
من الثورة إلى المسألة
إن غباء نظام الأسد زين له سهولة الانتصار على الثورة الشعبية، كما كان الأمر مع تمرد جماعة “الإخوان المسلمين” في ثمانينيات القرن الماضي.
هكذا، ومن دون إحساس بالمسؤولية الوطنية، حولت الجماعة الحاكمة في سوريا من قضية سياسية داخلية مرتبطة بتغيير بنية السلطة، عبر حرية الاختيار والديمقراطية، إلى مسألة دولية عصية على الحل.
وهذا يقودنا بحسب برقاوي إلى ضرورة التمييز بين سوريا الثورة التي يجب التمسك بمطالبها، وسوريا المسألة التي أصبحت موضوعا خاضعا لمصالح واتفاقات دولية، ولهذا صارت الدول الفاعلة في العالم ترى المسألة السورية من زاوية لا علاقة لها بالحدث الأصلي، وهو الثورة.
وأمام هذا الواقع الذي وصلت إليه الأمور في سوريا، يؤكد أحمد برقاوي على دور الطبقة الوسطى المدنية والبرجوازية في خلق الحياة السياسية وقيام الدولة المعاصرة، بوصفها دولة عقد وطني واجتماعي، وهو أمر لا يتحقق من دون نخبة مهجوسة بالهم الوطني وزاهدة في الغنيمة ومتحررة من عقل الغنيمة، ومتجاوزة عصبية الوسخ التاريخي وانحطاطه الأخلاقي.
بسبب أن البديل الوطني الديمقراطي لم يتكون، بنية صاعدة في أحشاء البنية القديمة، وبسبب ظهور قوى ذات عقل يفكر في الغنيمة ولا ينطوي على أي إمكان للانتصار (داعش، النصرة)، فإن طبيعة هذا الصراع قد اتخذت صيغة صراع متعدد القيم.
ولما كانت بنية النظام الحاكم بنية دكتاتورية ذات طابع عصبي أقلوي مزين بطابع حزبي قومي وإشراك شكلي لفئات أخرى، وذهنية ريفية عسكرية أمنية فاسدة، فالبديل ليس بنية داعشية نصراوية سلفية عنيفة أو بنية دكتاتورية من أي نوع آخر، بل يجب أن يكون البديل متقدما، وهذا البديل يجب أن يتعين بالممارسة على الأرض.