مشروع الثورة بين طموحه الناهض وحوامله الكسيحة

نوفمبر 29, 2022

حسن النيفي

مقالات

أثارت فورة الحديث الطاغي بين السوريين منذ مطلع نيسان الجاري عما يجري داخل الائتلاف، تساؤلاتٍ كثيرةً تحاول مقاربة ما جرى، متجاوزةً الأحداث المباشرة وردّات الفعل من جانب الأطراف المتناحرة، إذ يذهب البعض في تفسير حالة التشظي أو الانشطار بين الائتلافيين على أنها إحدى الأعراض الناتجة عن مشكلات أكثر تجذّراً في المشهد السوري المعارض، ولعل أبرز تلك الإشكاليات التي لا تتيح للسوريين إنضاج أدواتهم النضالية تتمثل في غياب أو (عدم تبلور) المشروع الوطني السوري الذي من شأنه أن يوحّد الرؤى والأهداف، وبالتالي يفرز الأدوات والوسائل المناسبة التي تعمل على تجسيده.

وبقدر ما كان هذا الكلام مهمّاً، إلّا أنه يبدو مثيراً للاستغراب في الوقت ذاته، إذ أليس من الغرابة أن يُطرح هكذا أمر بعد مضيّ إحدى عشرة سنة من انطلاق الثورة السورية؟ ولماذا بالأصل انتفض السوريون، وبماذا كانوا يطالبون، وما الفحوى الكامنة في إقدامهم على تقديم كل تلك التضحيات الهائلة بشرياً واقتصادياً واجتماعياً؟

واقع الحال يؤكد أنه بقدر ما كان مفهوم (المشروع الوطني) معقداً ومثيراً للجدل والخلافات بين النخب السورية على مختلف توجهاتها وانتماءاتها، إلّا أنه كان في غاية الشفافية والبساطة لدى الجمهور العام، وقد عبّر عنه السوريون منذ الساعات الأولى لحراكهم السلمي حين طالبوا بالحرية والكرامة ورفض الاستبداد وإقرار مبدأ سيادة القانون وتطبيق العدالة واحترام الحريات، إنهم ببساطة شديدة عبروا عن تطلعاتهم باستعادة الدولة السورية من هيمنة طغمة حاكمة متسلّطة على رقاب السوريين، ما انفكت تهينهم وتمارس عليهم كل أشكال الاستلاب والظلم طوال نصف قرن، ولا شك أن جميع هذه المطالب هي ذات بعد وجودي وإنساني وليست ذات طابع سياسي فقط، الأمر الذي يضفي على انتفاضتهم مشروعية أخلاقية وإنسانية واضحة فضلاً عن المشروعية السياسية، فأين الغموض فيما يريده السوريون، وهل ما عبروا عنه وطالبوا به يُعدّ بعيداً عما يستدعيه مفهوم (المشروع الوطني) من معانٍ، أم هو لغزٌ يستدعي التفكيك والتأويل؟

يمكن التأكيد على أن الجمهور العام كان سبّاقاً إلى التقاط لحظة وعيٍ تاريخي بضرورة التحوّل الاجتماعي الذي حملته رياح التغيير في مجمل ثورات الربيع العربي، كما أظهر هذا الجمهور استجابة رائعة وتفاعلاً عظيماً مع إرهاصات وعيه الجديد بضرورة التغيير، متجاوزاً كل حالات الخوف ومتصدّياً ببسالةٍ لجميع أشكال القمع التي تمارسها السلطة الغاشمة على الحراك الثوري بشتى تجلياته، وبهذا يكون الحراك الشعبي قد أنجز أولى مهامه، بل أهمّها على الإطلاق، والمتمثلة بتحطيم جدران الخوف وتحدّي آلة القمع والجهر بالمطالب، وتقديم التضحيات، والصمود في مواجهات دامية على امتداد سنوات، الأمر الذي مكّنهم من تحقيق المُنجز الأساس في أي حركة شعبية تحررية، وأعني تجريد السلطة من شرعيتها الأخلاقية والمجتمعية.

لا شك في أن المُنجز الثوري الذي حققه الحراك الشعبي السوري يُعدّ حجر الأساس في مشروع التغيير، ولا شك أيضاً في أن الحفاظ على هذا المُنجز كان يستدعي امتداد العمل في مرحلة تالية، وهي البناء على هذا المنجز، من خلال تأطيره وانتظامه في برامج ورؤى مدروسة، تقوم بها كيانات منبثقة من الحراك الشعبي ذاته، تعبر عن تطلعاته بصدق وتخلص في الدفاع عن مطالبه، أي الانتقال بالمنجز الثوري الشعبي من طور الثورة إلى طور السياسة، وهنا ينكفىء دور الحراك الشعبي عن التأثير خارج حدوده أو حيّزه المتاح، ليفسح المجال لدور مُوازٍ آخر، هو دور النخب السياسية والفكرية والمجتمعية الأخرى التي من المفترض أن تعمل على بلورة المنجز الشعبي سياسياً ودستورياً وإنسانياً، ومن ثم تعمل على شرعنته، أي إقناع الرأي العام العالمي والجهات الأممية والدولية بشرعية هذا المنجز، كحق للسوريين يجب احترامه والاعتراف بمشروعيته كبديل للطغمة الأسدية الحاكمة.

بعيداً عن اجترار كثير من سرديات ووقائع ما جرى طوال أكثر من عقد مضى من عمر الثورة، يمكن الوقوف عند لحظة تصادم صارخ وكبير، ما كان لها أن تفضي سوى بمزيد من المفارقات والتناقضات الحادة خلال سيرورة الثورة، ولعل أولى هذه التناقضات يتجسّد بين طبيعتين مختلفتين للوعي، تتجسّد إحداهما بشكلها الناضج والمتقدم لدى الجمهور العام، ولا تُنقِص عفويتها وتعبيراتها الشعبوية من تقدميتها ونضجها، يقابلها في الطرف الآخر وعيٌ مُخدَّر، ما يزال يستمدّ مضامينه من يباس الإيديولوجيات التقليدية الشائخة، والتصوّرات القبلية التي لم تملك القدرة بعدُ، على استيعاب الواقع الحياتي للناس في سياقه الزمني الجديد، وليس كما هو قارٌّ في العقائد والأذهان، بل هو تناقض شديد الوضوح بين المشروع الثوري ذي البعد الحداثي الإنساني، وبين أدواته وحوامله المتخلفة التي لا تملك القدرة على النهوض به، وبالتالي يمكن الإشارة بكل وضوح إلى لحظة افتراق مبكّرة من عمر الثورة، تجسّدت بين مُنجَز شعبي ثوري متقدّم، لم يجد الحوامل التي يمكن أن تنهض به، والموازية له من حيث نضجه وتقدّميته، بل تلقفته أطر وحوامل ذات أدوات عتيقة بائسة، تنطلق من وعي سابق لثورات الربيع العربي، بل ما تزال تحمل في تضاعيف وعيها معظم لوثات الاستبداد والشمولية. لعلنا لا نحتاج إلى شواهد ووقائع كثيرة تحيل بمجملها إلى ما تمت الإشارة إليه، إذ تكفي القراءة الموضوعية لما يجري في الائتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية من مطاحنات واشتجار، لتؤكّد أن البون الكبير الحاصل بين المنجز الشعبي الثوري، وكيانات المعارضة بشتى تمظهراتها، لا يمكن إرجاعه إلى أزمة تنظيمية أو إدارية، أو خلاف بين كتل حزبية ، ولا – كذلك – إلى تباين في وجهات نظر سياسية، بل لعله مآلٌ طبيعي للحظة افتراق بدأت بوقت مبكّر، وقد عبرت عن مضمونها التناقضي في مرات عديدة، ولكن يبدو أن حالات الانشطار التي يشهدها الائتلاف كانت التعبير الأكثر وضوحاً وإفصاحاً عن فحوى تلك اللحظة. ربما يكفي الوقوف عند مسألة طالما استوقفت كثيرا من السوريين، إذ إن من أهم ثمرات الوعي الجديد لثورة السوريين هو إدراكهم لمبدأ (المواطنة) كمفهوم أساسي في بناء الدولة الحديثة، يسهم في تعزيز الرابط الإنساني بين المواطنين كبديل عن حالة التنابذ والتمايز العرقي والديني، ويصبح العقد الاجتماعي الناظم لحياة الناس هو المصدر الذي يهب المواطنين اعتباراً متساويا بعيداً عن انتماءاتهم العرقية والدينية والإثنية، إلّا أن هذه الثمرة التي التقطها الوعي الشعبي بعفوية، وعبر عن حاجته لتجلياتها الفعلية، تجد ترجمة مريبة لها داخل الائتلاف على سبيل المثال، إذ إن مبدأ المحاصصة العرقية والطائفية والعشائرية – دعك من المحاصصة الحزبية والشللية – هي المعيار الأساس بل الأول للتمثيل، بل غالباً ما أصبحت المنافسة التي تصل إلى حدّ التدافع حول مسألة التمثيل إلى حرب بين الأعراق والطوائف، بل غالباً ما نسي الائتلافيون – في غمرة التطاحن – خطابهم الشكلاني حول المواطنة والديمقراطية، وعادوا إلى استلهام مكنونات وعيهم البدائي الذي لم يرتق إلى مستوى وعي الثورة، عادوا من جديد ليؤكّدوا أن مرجعياتهم الفكرية وكينوناتهم المعرفية ما تزال مشدودة إلى مفاهيم ما قبل الدولة وما قبل الوطنية. وليس مبدأ المحاصصة العرقية أو الدينية أو العشائرية هو المثلبة الوحيدة المباينة للوعي الثوري، بل ثمة مثالب كثيرة ينبىء عنها السلوك السياسي لكيان الائتلاف، ربما وجدت تجلياتها الأكثر بذاءةً بإحلال المصالح الشخصية والنفعية وحيازة المكاسب والاعتبارات الوظيفية والشهوة الدائمة إلى الارتهان وسوى ذلك الكثير، بالطبع، ليس المقصود هنا إحصاء وقائع الخراب، بقدر ما هو الوقوف عند جانب مهم من أسبابها.

ربما يفقد الحديث عن منجز ثوري شعبي لدى السوريين كثيراً من أهميته أو زخمه، نظراً لغياب الاستثمار الحقيقي أو الفعلي لهذا المنجز، وانعكاسه على حياة عموم السوريين، ولكن لا يجب على الإطلاق، تجاهل العوامل الخاذلة لهذا المنجز، وهي عوامل قابلة للتغيير والتجاوز وليست قدراً مقدوراً، شريطة توفّر الوعي والعمل الجاد لتجاوزها وتغييرها. ولعل كل ما قيل آنفاً لا يلغي دور العوامل الموضوعية الأخرى التي خذلت مشروع الثورة – كالعامل الدولي والإقليمي ودور قوى الإسلام السياسي وسوى ذلك كثير – ولكن كما معظم التجارب الثورية والتحررية في العالم، إن مقاومة العوامل الخارجية للخراب إنما تبدأ بسلامة الذات وتحصينها أولاً.

المصـــدر

المزيد
من المقالات