تحل الذكرى الخامسة لمجزرة الكيماوي التي ارتكبها نظام الأسد في خان شيخون في الرابع من نيسان عام 2017 ، والتي أودت بحياة اثنين وتسعين مواطناً بالإضافة إلى المئات من الجرحى، وموازاة مع خروج أهالي خان شيخون متجمهرين وهم يحملون صور شهدائهم ليؤكدوا للعالم أن جرائم الأسد ستبقى حيّةً في ذاكرة السوريين، كانت طائرات الأسد ترتكب مجزرة مروعة في بلدة معارة النعسان في ريف إدلب الشرقي مخلّفةً سقوط أربعة شهداء، جلهم ممن لم تتجاوز أعمارهم خمس عشرة سنة، وذلك في أثناء عودتهم من مدارسهم، وموازاة مع مواكب تشييع الأطفال الشهداء، كانت طائرات بوتين تغير على ريف إدلب الجنوبي مستهدفة قرى وبلدات جبل الزاوية. يوم الرابع من نيسان كان يوماً موغلاً في دمويته، أراد فيه نظام الأسد أن يعزز القناعة لدى السوريين أن مجزرة خان شيخون ، كما المجازر الأخرى، ستبقى مستمرة، وإن لم تكن بالسلاح الكيماوي، فثمة وسائل أخرى للقتل، المهم هو أن يبقى الموت يطارد المواطنين أنى حلّوا.
مما لا شكّ فيه أن العديد من مناطق وبلدات ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، قد شهدت هدوءاً نسبياً خلال الأشهر الثلاثة الفائتة، مما حدا بالعديد من العائلات إلى الرجوع إلى بيوتهم وقراهم، ومعظمها قريب من مناطق التماس مع قوات النظام، يدفعهم إلى تلك المغامرة تعلقهم بأرضهم، وسعيهم إلى استثمار وممارسة أعمالهم وزراعاتهم في بداية فصل الربيع، وربما هذا ما دفع الأسد وحليفه بوتين إلى المعاودة في ممارسة القتل والتدمير بحق الأهالي العائدين إلى ديارهم، ذلك أن عودة أصحاب الأرض إلى ديارهم إنما تعني تحدياً كبيراً للجبروت الأسدي البوتيني الذي وجد في ممارسة القتل والتهجير الوسيلة الأنجع لتحقيق الانتصارات والمنجزات. لا شكّ أنه مشهد يحيل بالذاكرة إلى الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون في مواجهة الاستيطان الصهيوني في مواجهة مسعاه الهادف لاقتلاع المواطن الفلسطيني من بيته وأرضه ودياره.
منذ مطلع العام 2017 ، وموازاة مع حملات التهجير القسري بحق سكان العديد من المدن والبلدات، والتي تسببت بتشرد ونزوح مئات الآلاف من الغوطة الشرقية وحمص وحماة وخان شيخون وسراقب ومعرة النعمان وكفرنبل والعديد من مناطق ريف إدلب وغربي حلب، أقول: منذ ذلك الحين بدأ المواطن السوري في تغريبة جديدة وهو يقاوم ويصارع عوامل فنائه على مستويين اثنين: الأول يتمثل في سعيه لتأمين أسباب ومقوّمات وجوده،في ظل انعدام معظم المقوّمات الأساسية والخدمات الضرورية للعيش، فضلاً عن غياب فرص عمل تحفظ الحدّ الأدنى للكرامة الإنسانية، والثاني يتجسّد بالمقاومة وعدم التسليم بشرعية نظام الإجرام الأسدي وحلفائه، بل كلما أمعن الأسد في إجرامه ازدادت القناعة لديهم بشرعية مقاومته والتحرر من عبوديته، أضف إلى ذلك صبرهم ومعاناتهم من جور سلطات الأمر الواقع التي غالباً ما وجدت في معاناة هؤلاء فرصة لممارسة التسلط والاستعباد. لا شك أنه مشهد ساخن جداً من مشاهد الصراع الوجودي بين شعب يواجه تحديات الفناء بما يمتلك من عزيمة وإصرار على البقاء بكرامة، وبين طغمة متسلطة لا ترى سبيلاً لبقائها واستمرارها سوى بالمزيد من ممارسة الإجرام.
لا ريب أنه مشهد زاخر بالمرارة والوجع نتيجة عمق المعاناة التي تتعزز يوماً بعد يوم، إلّا أن مرارته وأوجاعه لا تنفيان عنه سمة النظافة والنبل بأبهى تجلياته، بل يمكن القول إنه يجسّد الشكل الأمثل والأنقى للمقاومة التي يبديها الثائرون على نظام الأسد، فالحفاظ على البقاء والإصرار على التجذّر بالأرض والجهر بلاشرعية الأسد، لهي أفضل الوسائل وأنقاها في ظل غياب بل انعدام وسائل المقاومة الأخرى. ولكن بالمقابل ثمة مشهدٌ آخر مناقض تماماً للحالة الأولى، ويتمثل بالكيانات التي ادّعت قيادة الثورة السورية، واستمدّت شرعيتها المزعومة من خارج فضاء الثورة، ثم مارست على مدى عشر سنوات كل أشكال الخذلان بحق السوريين، وقدّمت براهين ناصعة على أن نزوعها نحو التسلط والاستئثار بالمنافع الدونية وحرصها الشديد على الارتهان لا يختلف من حيث الفحوى عن ماهيّة أحزاب ما يُدعى بـ “الجبهة الوطنية التقدمية” التي اتخذتها السلطة الأسدية مطية لها طيلة عقود من الزمن، وعلى الرغم من جميع مظاهر الرفض والاحتجاجات التي أبداها السوريون في وجه تلك الكيانات، إلّا أنها جثمت بقوة – وما تزال – فوق صدورهم، متحدّية بكل وقاحة، جميع الأصوات وصيحات الغيرة الوطنية التي ما انفكت تطالب باستئصال الخلل وتقويم المسار، ولعل القرار الذي صدر عما يسمى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” في الثالث من نيسان الجاري، والذي تضمن إبعاداً لأربعة عشر عضواً في الائتلاف، إضافة إلى استبدال أربعة آخرين، يكشف بوضوح عن أن حالة التعفّن لم تكن طارئة، بل مزمنة وقد انفجرت روائحها لتزكم الأنوف، وواقع الحال يشير إلى أن الفضائح التي أحدثها قرار الائتلاف تشبه إلى حد بعيد الفضائح التي تتكشّف حين يختلف السارقون فيما بينهم، ولسان حال كل واحد منهم يقول: عليّ وعلى أعدائي، ويبقى الأهم من ذلك كلّه هو: ما الذي سيقوله النازحون السوريون في خيامهم والمعتقلون في زنازينهم والمشردون واللاجئون في شتاتهم وأهالي وذوو الشهداء؟ حين يسمعون أن أحد أعضاء الائتلاف قد اتهم بملء صوته عدداً من زملائه بالعمالة لنظام الأسد، وذلك ضمن اجتماع رسمي للائتلاف، فيسارع رئيس الائتلاف إلى إسكاته، وإنهاء الاجتماع تستّراً على الفضيحة؟ وماذا سيقول هؤلاء أيضاً حين يسمعون أحد أعضاء الائتلاف يتحدث على شاشات التلفزة معلناً مسؤوليته الكاملة عن اتهامه لمجموعة صغيرة متنفذة تتحكم بـ “دكان الائتلاف” بحسب تعبيره، من خلال تحكمها بالكتلة المالية الممنوحة للائتلاف، حيث تقوم بتسخيرها لشراء ولاءات ورُشاً لضمان بقائها في سدة القيادة والتسلط؟ وما الذي سيقوله هؤلاء كذلك، حين يسمعون أن صاحب الحظوة الأكبر والكعب الأعلى في الائتلاف هو من كان أكثر مهارة بالاستقواء على زملائه بكتابة التقارير الكيدية والاستعانة بنفوذ جهات خارجية؟ وبالعودة إلى المثل السابق حول “اختلاف السارقين فيما بينهم” يمكن التأكيد على أن البيان الذي أصدره التجمع الوطني الحر، الذي أعلن انسحابه من الائتلاف بسبب فصل أحد أعضائه،، وكذلك البيان الذي أصدره الأعضاء الأربعة عشر، الذين طالهم قرار الفصل، لا يمكن أن يكونا إلّا شهادة بعد فوات الأوان، بل هي شهادة تشبه كثيراً شهادة عبد الحليم خدام وتشهيره بفساد أسياده بعد أن أمضى عمره خادماً وشريكاً لنظام الأسد، إذ ليس من المنطقي والمعقول ألّا يظهر كل هذا الخراب الهائل في الائتلاف إلّا حين ظهر قرار الفصل، ولماذا سكت أصحاب البيانات الاحتجاجية طيلة سنوات؟ وهل كانوا سيحتجون بالفعل لو أن قرار استبعادهم لم يحصل؟
ربما لا يقف كثير من السوريين عند مآلات الفشل السياسي التي ما يزال يجترّها الائتلاف ومشتقاته من هيئة التفاوض ولجانها الدستورية، لا لأن تداعيات الفشل لا أثر لها على مصيرهم أو أنها غير موجعة لهم، بل لأنهم غالباً ما ساقوا المزيد من المبررات لعثراتهم بل كبواتهم، وفي طليعة تلك الأعذار، التدخل الدولي وعدم تكافؤ القوى وقلّة الحيلة، ولكن ربما تختفي جميع الأعذار حين يكون الفشل منبثقاً عن خذلان أخلاقي لثورة عظيمة انطلقت من معين القيم، معين الحرية والكرامة.
لا ريب على الإطلاق أننا أمام مشهدين متناقضين، بل متنابذين، يتجسّد الأول بصمود المواطن السوري واستبساله في المقاومة حتى الرمق الأخير، ويتجسّد الثاني باستمراء الدناءة واجترارها حتى الرمق الأخير أيضاً.