أظهرت ثورة السوريين إبان انطلاقتها في آذار 2011 حضوراً رئيسياً لشريحة الشباب، بل ربما يصح القول: إن الرافعة الحقيقية التي دفعت بالثورة من طور الرغبات والحماس إلى طور الحراك الفعلي على الأرض هم شباب وصبايا سوريون أطلقوا صيحاتهم في درعا، ثم ما لبثت تلك الصيحات أن تداعى صداها في معظم المحافظات السورية، ومع امتداد الحراك الثوري السلمي إلى الأرجاء السورية، ظلت هذه الشريحة هي سيدة الموقف من حيث المبادرة بالتظاهر، وتصدّيهم بصدورهم للعنف الذي تمارسه السلطة، وكذلك تعرّضهم لحالات الاعتقال المستمرة، فضلا عن سقوط أعداد كبيرة منهم بقناصات قوات الأسد.
إلّا أن تلك الاندفاعة الشبابية نحو الحراك الثوري السلمي الميداني، لم نشهد اندفاعةً مثيلةً لها نحو الحراك السياسي، بل ربما انقلب الحضور الشبابي الكاسح في الطور الأول من الثورة، إلى حالة من الانكفاء شبه الكلي عن العمل السياسي، سواء أكان هذا العمل مؤطراً بأحزاب أو تيارات أو أي كيانات أخرى، فهل يجسّد هذا التناقض بين الانكفاء والحضور ظاهرة طبيعية ذات صلة بالاختلاف الكامن بين النشاط الميداني والعمل في السياسة؟ أم أنها تجسيد لخلل في سيرورة الثورة، حيث بدأ بسيطاً ثم انتهى إلى حالةٍ مركّبة، أي أصبح معضلة تستدعي مزيدا من البحث والتفكير؟
لعل المقاربة الجدية لهذه المسألة، توجب التأكيد على أن الفترة الممتدة من آذار 2011 ، وحتى نهاية العام 2012 ، شهدت حراكاً متميّزاً، ليس على مستوى التظاهر السلمي فحسب، بل على مستوى النشاط المدني أيضاً، كإنشاء الجمعيات الإغاثية والمجموعات الحزبية، والفرق الفنية والثقافية، بل ربما استطاعت العديد من المدن والبلدات السورية المحررة آنذاك( كفرنبل – سراقب – داريا – منبج )، أن تجسّد بعض الحالات الفنية والثقافية التي أضحت إحدى سمات الثورة المميزة، ثم أخذت هذه الاندفاعة بالتراجع التدريجي. ولعله من غير المصيب اختزال أسباب هذا الانزياح عن ساحة الفعل والمبادرة بجانب واحد فقط، بل لا بدّ من النظر إلى المسألة من جوانبها الميدانية والسياسية والأمنية بآن معاً، وفي هذا السياق، يمكننا المرور بإيجاز لدى النقاط التالية:
أولاً – التحوّل السريع للحراك الثوري من الطور السلمي نحو العسكرة، وذلك منذ أوائل العام 2012 ، جعل معظم شرائح الشباب الثوري تتجه نحو إحدى خيارات ثلاثة، إما الانخراط في العمل المسلّح من خلال الانضواء في كتائب أو فصائل، أو التوجه نحو العمل المدني كالإغاثة والإعلام، وإما الانكفاء الكلي عن أي شكل من أشكال النشاط، ومن الفترة الممتدة من أواخر العام 2012 وحتى منتصف العام 2013 شهد المشهد العسكري مفصلاً خطيراً، وأعني تغلغل الجماعات والقوى الإسلامية في الجغرافية السورية، ( جبهة النصرة – أحرار الشام – داعش )، ولم تمض سوى أشهر قلائل، حتى باتت هذه القوى هي المسيطرة على الجزء الأكبر من المناطق المحررة، بل بات ينحسر دور الجيش الحر الذي أصبح مُستهدفاً من القوى الإسلامية، وموازاة مع انحسار نفوذ الجيش الحر ( جغرافياً وعسكرياً)، بدأت تنحسر – أيضاً – المساحة التي يتموضع فيها الحراك المدني للثورة، وذلك بسبب تغوّل القوى الإسلامية المسلّحة التي لم تترك أي نشاط مجتمعي دون أدلجته، أي احتوائه ، ومن ثم إعادة تصديره على أنه مُنجز عليه (خاتمها) حتى يكون مقبولاً، بل مباركاً.
ثانياً – في الفترة الممتدة من بداية العام 2014 وحتى منتصف العام 2016، استطاع تنظيم داعش ومشتقاته أن يسيطر على أكثر من نصف الجغرافية السورية، (ريف حلب الشمالي والغربي – منبج – الباب – جرابلس – اعزاز – الرقة – أجزاء واسعة من دير الزور – تدمر – البادية السورية – مناطق وبلدات عديدة في الريف الدمشقي)، وفي آذار من العام 2015 استطاع جيش الفتح ( بقيادة جبهة النصرة) أن يسيطر على إدلب كاملةً، وقد أدّت هذه التداعيات الميدانية إلى نزوح كبير من سكان تلك المناطق – ومن الشرائح الشبابية على وجه الخصوص – إلى بلدان الشتات، إمّا بسبب رفض الانصياع لأجندات سلطات الأمر الواقع، وإما هرباً من البطش الذي تمارسه تلك القوى بحق من لا يتماهى مع توجهاتها الإيديولوجية، وربما هرباً من حملات التجنيد الإجباري التي باتت تفرضها القوى المسيطرة على الأرض، وربما أيضاً بحثاً عن مكان آخر للعيش، يوفّر لهم الحدّ الأدنى من مقوّمات الأمان. ولعلّ تلك التطورات الميدانية التي أفرزت مواقع نفوذ جديدة، كان لها دور مهم في تجفيف الجغرافية السورية من ثروة شبابية كبيرة، كان لها حضورها على الأرض السورية.
ثالثاً – لئن أتاحت بلدان اللجوء مساحة أكبر أمام الشباب السوري، للتعبير عن رأيه، وممارسة أنشطته، ووفّرت له فسحة من الأمان الذاتي، إلّا أن الواقع المعاش في تلك البلدان بات يفرض على اللاجئ السوري اهتمامات وهموماً جديدة، ولا محيد عن التفكير فيها أو مواجهتها، وفي طليعة تلك الهموم والمشاغل، البحث عن سبل العيش والاستقرار، بما في ذلك مسائل البحث عن فرص العمل ومتطلبات المعيشة، ومتابعة التعليم… إلخ، ولا شك أن هذه المسائل باتت تستهلك الجزء الأكبر من الهم الشبابي في بلدان اللجوء، الأمر الذي يجعل المساحة المتبقية للاهتمام بالبناء السياسي للذات، ومن ثم الانخراط في العمل المؤطر، على قدر كبير من الضيق والمحدودية.
رابعاً – لا يمكن إغفال المسؤولية التي كان من المفترض أن تقع على عاتق الكيانات الرسمية للمعارضة السورية، سواء أكان المجلس الوطني أو الائتلاف أو الحكومات المؤقتة المتعاقبة ، إذ إنها لم تكن مقصّرة في استقطاب عنصر الشباب نحو الميادين السياسية فحسب، بل جسّدت دوراً طارداً لأي رغبة جماهيرية في المشاركة السياسية، وذلك بحكم نشأة تلك الكيانات التي ارتبطت بالإرادات الإقليمية، ثم خضعت لإرادات ونفوذ القائمين عليها، ثم تحوّلت إلى كيانات مغلقة أمام الإرادة الشعبية، ولا يملك مفاتيح أبوابها، إلّا المتحكِّمون في مفاصلها.
كما أنه لا يمكن إغفال القدر الكبير من المسؤولية التي كان من المفترض – أيضاً – أن تقع على عاتق الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، سواء الأحزاب التقليدية، أو التي نشأت بعد انطلاقة الثورة، ذلك أنها – وبحكم المنهج الذي ما يزال يحكم طرائق تفكيرها – لم تحاول النهوض – فكرياً وسياسياً – على حوامل يفرزها الواقع الجديد للسوريين، ولا حاولت أن تستلهم المصالح الاجتماعية والتطلعات العامة للمواطنين، بحيث تغدو برامجها منبثقةً من السياق الحياتي والاجتماعي للمواطن، إلّا في الشعارات فحسب، أما من حيث السلوك أو الممارسة الفكرية أو السياسية، فقد ظلت في غالب الأحيان، أمينة لأفكار شيوخها وكهنتها.
ما هو مؤكّد، أن ثمة كابحاً نفسياً بدأ يتداعى ويشيع في نفوس معظم السوريين، مبعثه الاعتقاد بأن القضية السورية باتت خارج إرادة السوريين، بل ربما بات يعتقد كثيرون أن إيجاد أي حل لقضية السوريين، إنما مرهون بتوافق المصالح الدولية المتصارعة على الأرض السورية، الأمر الذي يجعل السؤال عن جدوى العمل السياسي الحزبي، ومدى قدرته على تحقيق أيّ مُنجز سياسي وطني، قائماً على الدوام. ومما لا شكّ فيه، أن العمل على مقاومة هذا الشعور
المُحبِط، لهو في غاية الأهمية، بل ربما يكون العمل على إعادة الثقة بالإرادة الوطنية، والنظر إلى الوجه الناصع للثورة، واستحضار المُنجز السوري في رفض الاستبداد والعبودية بالرغم من جميع التضحيات الهائلة على مدى عشر سنوات، هو نقطة البداية الصحيحة لاستحضار السياسة في الوعي السوري.