إبقاء الذاكرة حيّة متوهجة، هو فعل من أفعال مقاومة نظام الأسد الحريص على تشويه وإماتة الذاكرة، وهو ما يحترفه هذا النظام منذ أن زيّف سوريا كلها، من وطن للجميع، إلى مزرعة تسمى سوريا الأسد، وانطلاقا من أهمية تأريخ تفاصيل الثورة كتبت وأكتب، وهذه المرة عن ملحمة امتدت خلال أحد عشر يوما، ناضحة بالدروس والعبر والتضحيات.
كان عام ٢٠١٢ قد مضى، وطوى معه حكايات بطولة وانتصار، متروكة للأبناء والأحفاد، عن جيل شاب ثار وانتفض، وتحدى أكثر الأنظمة الدموية انحطاطاً، وفي ذلك الوقت وبعد أن رُسمت خطوط التماس بين النظام والثوار، هدأت الجبهات الداخلية وسخرت الفصائل الكبرى (لواء التوحيد، لواء الفتح، ألوية المعتصم، لواء أحرار سوريا) قوتها في معارك تحرير الثكنات العسكرية المحيطة بمدينة حلب لإنهاء عقبات تعيق حركة الثوار وتنقلاتهم بين مدينة حلب وأريافها.
كتائب المدينة تنهض
كان للكتائب المُشكلة من سكان مدينة حلب السبق في دخول المدينة منذ اليوم الأول من شهر رمضان من عام ٢٠١٢، ولا تُنسى مشاركتهم الفعالة في تحرير أحياء حلب، وقدمت تلك الفصائل كثيرا من أفرادها شهداء، واستُنزفت بشدة حتى كاد بعضها يتلاشى ويذوب ضمن فصائل أخرى.
تنادى قادة مجموعات مدينة حلب واجتمعوا وقد ساهم في ذلك ضغط من حواضنها الشعبية الباقية في المدينة، الممسكة على يد أبنائها في الجيش الحر، رغم شدة القصف الجوي والمدفعي، وتكللت اجتماعات القادة بالإعلان عن تشكيل عسكري كان حينذاك الأكبر في مدينة حلب وحمل اسم “تجمع فاستقم كما أمرت”، وكان ذلك في 19 من كانون الأول / ديسمبر من عام 2012، وضم التشكيل الفصائل التالية: (لواء درع الأمة، لواء درع الوطن، لواء درع الشهباء، لواء حلب الشهباء، تجمع كتائب السلام، كتائب ذو النورين، لواء حلب المدينة، كتائب نور الدين الزنكي، لواء أنصار محمد).
آخر أبواب حلب
تجمع فاستقم كما أمرت، بعد أقل من شهر على تأسيسه أعلن عن بدء أول عمل عسكري له، في خطوة تُحسب لهذا التجمع وقادته ومقاتليه، لأن الرهان على كل الصعد وخصوصا عسكريا ليس رهانا سهلا، لأن الهدف هو تحرير حي الشيخ سعيد.
صارت الهمم بعد ذلك الإعلان باسقة، والفرح خالط قلوب الثوار، من حملة السلاح والمدنيين، وبهذه الروح بدأت المعركة.
حي الشيخ سعيد، عسكريا، من المواقع الاستراتيجية المهمة لأسباب عديدة أبرزها، كونه يقع على هضبة مرتفعة، ما يجعله مفتاح مدينة حلب من جهة الجنوب، كما أنه موقع حاكم لإشرافه على طريق M4 أحد أهم طريقيْن في سوريا، والواصل بين شرق سوريا (محافظة الحسكة) وصولا إلى سواحل بلادنا المطلة على الأبيض المتوسط.
الحي هو نقطة صلة رئيسية تربط بين ريف حلب الجنوبي ومطاري حلب الدولي، والنيرب العسكري من جهة، وبين الكليات العسكرية (المدفعية، التسليح، المدرسة الفنية الجوية، أكاديمية الأسد العسكرية)، وصولا إلى عمق مدينة حلب.
وبناء على ما سبق، وكون حي الشيخ سعيد يُعد نقطة حماية متقدمة للكليات العسكرية ومطار النيرب، فإن السيطرة على الحي تعني قطع آخر طرق الإمداد البرية لمناطق سيطرة النظام في غربي حلب، أي عملياً حصاره والتضييق عليه، وبالتالي تأمين سهولة تنقل للثوار والمدنيين بين الريفيْن الجنوبي والغربي، ليصبح الزمن أقل من ساعة، والذي كان يستغرق قبل ذلك أكثر من أربع ساعات.
عامل آخر، يعزز من كون حي الشيخ سعيد هدفا عسكريا صعبا، طبيعة الحي المؤلف من أبنية عشوائية متلاصقة، وأن هذه الأحياء شكلت خزانا للشبيحة ساهم في مرحلة السلمية في قمع وإيذاء وقتل المتظاهرين، وفي مقدمتهم أفراد من عائلات ميدو وعزوز والأسود، وبطبيعة الحال معززين بقوات كبيرة تابعة للنظام، وبأسلحة كما ونوعا تفوق بعشرات المرات ما يمتلكه الثوار.
التخطيط
قائد العملية محمد بكور (أبو الصادق)، والقادة العسكريون للمعركة وهم: النقيب مالك إدريس، ربيع دعبول، النقيب أحمد شبلخ (أبو يعرب)، اتفقوا على خطة المعركة وذلك بعد عملية استطلاع ورصد، وخصوصا للمداخل والمخارج وطرق الإمداد.
أذكر حماس هؤلاء القادة، خلال عرضهم خطة الاقتحام، على جهاز الإسقاط في مقر لواء حلب الشهباء، وكان الإيمان بالنصر لا يتزعزع في قلوبهم، وانطلقت معركة تحرير حي الشيخ سعيد فعليا في الثلث الأخير من شهر كانون الثاني / يناير بمشاركة كل فصائل تجمع فاستقم، وإلى جانبها لواء النصر ومعظم أفراده من أبناء حي الشيخ سعيد نفسه، بقيادة النقيب المهندس تميم باقر (أبو عزام)، والقائد العسكري عبد الله عرعور.
ملحمة في أحد عشر يوما
انطلقت معركة تحرير حي الشيخ سعيد من محوريْن رئيسييْن، من يمين الحي ويساره، وبالتنسيق مع محور من جهة الريف الجنوبي باتجاه معمل الإسمنت والإسكان العسكري، شاركت فيه مجموعة من الفصائل هي حركة الفجر الإسلامية، لواء صقور الشام، لواء درع الراية، تحت مسمى (تجمع لا إله الا الله).
عطفا على ما سبق من طبيعة الحي وصعوبته بوصفه هدفا عسكريا، فإن قوات النظام والشبيحة الموالين له في الحي، كانوا قد استعدوا بشكل جيد للمعركة، من خلال تجهيز الدشم، والمتاريس، وبناء شبكة للتحرك ضمن بيوت الحي عبر حفر الطلاقيات، وكذلك نصب القناصات المتطورة، والمزودة بالمناظير الليلية على أسطح البيوت، ناهيك عن استقدام آليات عسكرية ثقيلة، وفوق كل هذا التفاوت الهائل بين الطرفين، فإن الطرف الأقل تسليحاً أي الثوار، هم المهاجمون إذ يملك الطرف الآخر المدافع فرصا أقوى من الناحية العسكرية.
كل ذلك لم يمنع مجموعات الاقتحام وقادتها من الانقضاض على العدو، وتحريا للأمانة والدقة سأذكر أسماء أبرزهم في نهاية المقال.
كالأسود لا يهابون شيئا، اندفع الثوار ودارت معهم رحى وقعة كانت بحق قوية وقاسية، وخصوصا أن النظام قدم مساندة جوية كثيفة، إلا أن الالتحام المباشر قلل من فعالية الإسناد الجوي في خطوط التماس الأولى، لكنه صب حممه على الخطوط الخلفية، دون تفريق بين مدني وعسكري.
ساعدت خبرة الثوار في معارك المدن وحرب الشوارع وخصوصا في معارك سابقة بأحياء صلاح الدين، والإذاعة، وسيف الدولة، وبعد أسبوع من بدء المعارك وصل الثوار إلى شارع المدرسة، العصب الرئيس في حي الشيخ سعيد وبسقوطه يبدأ تهاوي العدو، إلا أن ذلك الشارع وكان يوجد فيه بيت المختار، فقد كان محصنا تحصينا شديدا، معززا بقناصات ودبابات وعربات ب م ب، فاستعصى الشارع على الثوار، ونظرا لقلة السلاح والذخيرة فإن التأخير فيه استنزاف قاتل للثوار.
بدأت الذخيرة تشح، وزاد عدد الإصابات بين الثوار، ورغم ذلك ظل الثوار خلال ثلاثة أيام يستميتون للسيطرة على شارع المدرسة، وكانت المعنويات قد بدأت تخفت لاستعصاء التقدم.
إنما النصر صبر ساعة
في ظل الظروف المذكورة أعلاه، من استنزاف شديد بدأ يصيب الثوار، ماديا ومعنويا، إلا أن ذلك لم يمنع أن تؤتي العزيمة والإصرار أكلهما، وانعكس التنسيق الجيد بين محاور القتال الثلاثة على تحول كبير في مسار المعركة.
في الثاني من شهر شباط/ فبراير، تقدمت الفصائل الموجودة من الطرف الجنوبي (تجمع لا إله إلا الله)، يقودها ثلة من الأبطال كانوا صنّاع التحول في المعركة هم: الشهيد خالد عبود (عاشق)، الشهيد قتيبة عموري، طالب الهندسة في سنته الرابعة، علاء الدين أيوب المعروف بالفاروق أبو بكر، الشهيد آيات الدالي، الشهيد دياب جمال ظاظا، محمود الحسن العليوي (أبو قتادة)، محمد إبراهيم نعسان (أبو إبراهيم ترمانيني)، مصطفى حمدان (أبو دجانة)، ووصلت إلى مستودعات الإسكان العسكري، ومعمل الإسمنت، مما زاد الضغط وانهارت دفاعات المتحصنين، وخشية وقوعهم بين طرفي الكماشة نتيجة التقدم المتزامن بين المحاور المُهاجمة فر المتحصنون في حي الشيخ سعيد باتجاه الراموسة والكليات العسكرية مخلفين وراءهم أعدادا كبيرة من القتلى والأسرى وكان أبرزهم عضو مجلس الشعب الشبيح إبراهيم عزوز (أبو أكرم).
وتبقى الذاكرة والأسماء
وقد آثرت هذه المرة ذكر هؤلاء الأبطال مما تسعفني به الذاكرة أو سعيت إلى ذلك استقصاء وبحثا. ومنهم قادة وأفراد، ممن استشهد في المعركة أو استشهد لاحقا أو ظل ليروي، وجميعهم بيننا أحياء، وتكريما لهم أضع أسماءهم ههنا، وعذرا إن نال السهو أو الخطأ مني:
منهم قادة مجموعات الاقتحام: الشهيد أبو علي صليبي، الشهيد حسين عزيزة (أبو خالد)، الشهيد أحمد عبد الله لولة وشقيقه الشهيد عمر لولة، قائد سرية القناصين الشهيد أحمد سندة (الدبيح)، الشهيد أبو عبدو المارعي، معتصم عباس، ياسر نبهان وشقيقه الشهيد أنس نبهان، أحمد نبهان، محمد عكيدي (أبو جمعة) وشقيقه الشهيد مهند عكيدي، بطل التلغيم والتفخيخ علي عقيل (أبو شهاب) الذي فقد بصره وسمعه بتفجير عبوة ناسفة عن بعد، سليمان شهاب الدين، سمير حميد، محمد درباس( صهيب)، النقيب محمد حمود (أبو حكمت)، الشهيد عدنان عكيدي أبو هلال الملقب (أسد الجنوب)، معتصم بالله كردي الملقب (أبو حمزة الليبي) محمد فرج (فرج الليبي)، صالح حسن الصالح (أبو كريم) المجند المنشق خالد الحموي ، الشهيد أحمد طاحوش وشقيقه الشهيد حسن طاحوش، علاء زيدان، أبو حسين بشمركة، منذر الباقي (أبو حسين)، ومن خلفهم أبطال ميامين تواقون لخوض تلك المعركة وتحرير الحي الذي سبق وأن استعصى عليهم من قبل.
ومن باب الأمانة التاريخية لابد من ذكر الدور المهم لقادة الفصائل المشاركة، في نجاح المعركة من خلال وجودهم الدائم إلى جانب مقاتليهم ورفع المعنويات والحفاظ على الروح القتالية، وبذل الجهود الكبيرة لتأمين كل مستلزمات المعركة، أذكر منهم: مصطفى برو، مأمون كنعان، ناجي أشرم، ملهم عكيدي، أحمد جوخة (أبو عمر الزعيم)، الرائد محمد ياسين (أبو ماهر).
نعم، إنها معركة الإخلاص، وأي إخلاص أجل وأعظم من التضحية بالروح، ونزف الدم على جنبات دروب السوريين إلى حريتهم وكرامتهم، إنهم الشهداء الذين يتشرف ويتعطر مقالي بذكر أسماء بعضهم ممن ارتقوا في هذه المعركة وهم: محمد الحسن (أبو محمود ذو النورين)، أبو محمود صلاح الدين، سامر جقل، محمود فرحان عرعور، العسكري المنشق خليل الديري، محمود طراب، محمد نور عز الدين سالم، فراس أحمد بدوي، دياب جمال ظاظا. عبد الكريم جواد عجم.
لم تتوقف المعركة عند هذا الحد، واستمرت لاستكمال تحرير الحواجز الواقعة على الطريق الدولي باتجاه المطار (حاجز المنارة، حاجز البقر، حاجز عسان)، وتم تحريرها بعد أيام قليلة، وبذلك يكون النظام قد حوصر في مدينة حلب وقُطعت عنه كل طرق الإمداد البرية، لتبدأ مرحلة جديدة من معارك الكر والفر في ريف حلب الجنوبي، والتصدي للرتل الضخم الذي أرسله النظام لفك الحصار عن قواته في حلب بقيادة العميد المجرم سهيل الحسن، تحت مسمى معركة (دبيب النمل).