معركة حلب.. تفاصيل الانتقال من السلمية إلى الكفاح المسلح

نوفمبر 29, 2022

العقيد عبد الجبار العكيدي

مقالات

استكمالا للمقال السابق، وقبل الحديث عن معركة تحرير مدينة حلب، لا بد من وضع الأحداث في سياقها الزمني والتسلسلي في المدينة، والأسباب التي أدت لحمل السلاح وتشكيل المجموعات المسلحة والتنسيق مع فصائل الريف، لحين الالتقاء في معركة تحرير المدينة.

مع بدايات الربيع العربي وهروب زين العابدين بن علي وسقوط مبارك، استيقظ الحلم الذي لم يمت لدى السوريين، وبدأ الهمس بين التواقين للحرية لاستعادة سوريا المغتصبة من قبل عصابة طائفية حكمت بالحديد والنار، قتلت، اعتقلت، سرقت ونهبت وشردت حتى أضحت سوريا مزرعة لهذه العصابة.

النظام استشعر أن رياح التغيير آتية، وتوجس خيفة من هبوب رياح شمالية باردة تزلزل عرشه وتخلخل بنيانه منشؤها حلب وإدلب وحماة، لدرايته ومعرفته بما فعله بتلك المحافظات، وحجم الجرائم التي ارتكبها بحق أهلها، فبدأ التحضير والاستعداد لمواجهة أي حراك قد يحصل فيها، فحشد شبيحته وعملاءه واستنفر فروعه الأمنية للتصدي لها واحتوائها.

لكن شاءت الأقدار أن يوقد أطفال درعا الشعلة، وتهب رياح جنوبية ساخنة طالما انتظرها السوريون، سرعان ما انتقلت إلى حمص وبانياس واللاذقية وجبلة ليسمع صداها في داريا ودوما ودير الزور وحماة وإدلب، وعين الجميع ترقب حلب، العاصمة الاقتصادية والتجارية، وثاني أكبر المحافظات بعدد السكان، فهي بيضة القبان التي بخروجها على النظام ستقلب الموازين.

المظاهرات المطالبة بالتغيير بدأت تكبر وتتوسع على مساحة الجغرافيا السورية والسكون والهدوء يخيم على مدينة حلب، وسط حالة من الدهشة والذهول لدى عموم السوريين الذين يدور في خلدهم كثير من الأسئلة عن أسباب تأخر المدينة عن اللحاق بركب أخواتها من المدن الثائرة.

لكن الحقيقة التي لا يعرفها كثيرون هي أن النظام، واستمراراً لنهج وسياسة حافظ الأسد، وضع كل ثقله على هذه المدينة، مدركاً أنها سوف تكون مكمن الخطر الحقيقي عليه، فعمل منذ ثمانينات القرن الماضي على تجهيل أبنائها وإفقار أهلها ومحاولة تحييدها عن كل حراك ونشاط سياسي، وإشغالها بتوافه الأمور من خلال خطوات ممنهجة ومدروسة تمثلت بـ:

– إبعاد الشخصيات الوطنية الوازنة من أبناء العائلات الحلبية العريقة وتقريب رويبضة القوم الذين تسيدوا المشهد.

– نسج تحالفات وتوازنات مع الطبقة البرجوازية المؤثرة وكبار التجار والصناعيين حديثي النعمة، الذين بنوا إمبراطورياتهم المالية بالشراكة المشبوهة مع ضباط القصر الجمهوري والمخابرات وكبار المسؤولين في الدولة.

– محاربة العلم والتعليم والأدب، بالإضافة للفن والثقافة التي كانت حلب عاصمتها الحقيقية، لتتراجع وتصبح في ذيل القائمة وتحصل في عهد الأسد الابن على جائزة المدينة الأعلى بنسبة الأمية في سوريا.

– أما عن علماء الدين أصحاب التأثير الأكبر في المجتمع الحلبي المتدين، فقد غيبهم النظام، واعتلى المنابر أصحاب عمائم تم تصنيعهم في الفرق والشعب الحزبية وفروع المخابرات، من أمثال أحمد حسون، ومحمود عكام، ونديم الشهابي، وغول آغاسي، وكثير من أمثالهم.

كان لابد من هذا السرد لواقع الحياة في حلب للوقوف على الأسباب الحقيقية في تأخر وضعف الحراك الثوري فيها، واستثمار النظام لذلك ليشيع أن حلب، كما هي العاصمة دمشق مؤيدة له وتحبه.

لن أدخل كثيرا في تفاصيل الحراك السلمي في حلب الذي حاصره النظام وضيق عليه وقمع ناشطيه واعتقل كثيرا منهم، ما دفع بعضهم للتفكير مبكراً بحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وعن المتظاهرين، بسبب قناعتهم أن كلفة التغيير السلمي ستكون عالية جداً بالنظر إلى التجربة الدموية في الثمانينات، ولما شاهدوه من توحش الشبيحة وعناصر الأمن في التعامل مع المتظاهرين السلميين.

وهنا انقسم الشارع الثوري حول تسليح الثورة، حيث يرى القسم الأكبر أن قوة الثورة في سلميتها لمعرفتهم بنوايا هذا النظام الذي يدفع منذ البداية لتسليحها من أجل وصمها بالتطرف والعنف ومواجهتها، ووأدها بكل أنواع الأسلحة.

ومع اقتراب العام 2012 واتساع رقعة المظاهرات المطالبة في معظم أحياء المدينة المحكومة بقبضة أمنية شديدة وقطعان من الشبيحة، وازدياد حملات الاعتقال التعسفي بحق المتظاهرين والناشطين وارتقاء الشهداء في كل المظاهرات فرادى وجماعات، قام بعض الشباب المتحمس، وخاصةً ممن عانوا قسوة الاعتقال وذاقوا شتى أنواع التعذيب والإهانة والقهر، بتشكل مجموعات صغيرة بأسلحة بسيطة لا تتعدى المسدس وبنادق الصيد والسلاح الأبيض، كان أبرزها سرايا (أبو عمارة – سيوف الله –التوحيد والجهاد- رجال الله الأحرار).

مع تزايد الانشقاقات عن جيش النظام وبتنسيق مع الضباط المنشقين ومجموعات الريف، بدأ نشاط تلك المجموعات في تصاعد وازدياد، وأصبحت مدن عندان وتل رفعت والأتارب مركزاً لتدريبها وتنظيمها وإمدادها ببعض الأسلحة وقواعد انطلاق لتنفيذ العمليات النوعية الموجعة ضد عناصر الأمن والشبيحة التي كان لها صدى كبير.

أصبح اسم الجيش الحر يتردد على كل لسان مشكلاً رعبا حقيقياً لضباط النظام وشبيحته، ومصدرا للشعور بالأمان والاعتزاز والفخر لدى جمهور الثورة الذي علا صوته في المظاهرات لمطالبته بتحرير المدينة وتخليصهم من شبح الاعتقال والموت، وتطهير الشهباء من دنس هؤلاء المجرمين الغرباء عن قيم وحضارة أعرق وأقدم مدن التاريخ.

معرفة الجميع بإجرام هذا النظام ونواياه المبيتة لحلب جعل الرأي السائد عدم المواجهة المسلحة، والاكتفاء بعمليات نوعية وخاطفة والعودة إلى القواعد في الريف، إلى أن جاءت مظاهرة صلاح الدين يوم الجمعة 22 من حزيران 2012 وكان يوماً فارقاً في تاريخ الثورة بحلب، فعلا الصوت المطالب بدخول الجيش الحر إلى المدينة.

في الأسبوع الذي تلاه، وفي يوم الجمعة 30 حزيران 2012 وبعد يوم واحد من تشكيل المجلس العسكري وانضمام معظم مجموعات المدينة التي أصبح عددها 33 مجموعة، كان أول ظهور مسلح للمجموعات لحماية المظاهرات في حي صلاح الدين، وحصل الاشتباك بالقرب من حديقة سيف الدولة، وتم قتل مجموعة من عناصر الأمن.

تكرر ذلك في الجمعة التي بعدها وازداد الانتشار المسلح للمجموعات ونشر الألغام على مداخل الحي تحسبا لاقتحام الأمن وشبيحته، وبتاريخ 9 من حزيران تم إدخال كميات صغيرة من بنادق الكلاشنكوف والقناصات وبعض الذخيرة القليلة جداً إلى مدينة حلب من قبل المجلس العسكري، وتوزيعها على المجموعات (الخلايا النائمة). تلتها جمعة خرجت بها مظاهرات كبيرة بحماية الجيش الحر ولم يتجرأ عناصر النظام على الاقتراب منها.

قبل الحديث عن اليوم الذي أعلنت فيه الفصائل حي صلاح الدين محرراً من النظام ومن باب الأمانة التاريخية، لابد من العودة إلى الوراء قليلاً وتوضيح بعض الأمور الملتبسة على كثير من الناس في موضوع دخول مدينة حلب.

الجميع يعتقد أن أول من دخل مدينة حلب هم مجموعات الريف التي توحدت في تشكيل عسكري كبير تحت مسمى لواء التوحيد في 18 من تموز 2012، ولكن الحقيقة أن هناك محادثات ومشاورات كثيرة بين ضباط المجلس العسكري ومجموعات المدينة التي كانت تطالب فصائل الريف بالدخول إلى مدينة حلب وتحريرها من عصابات الأسد.

كان رأي الضباط التمهل، لحين استكمال تحرير الثكنات العسكرية حول المدينة ووضع خطة محكمة للسيطرة على كامل حلب، لكن صبيحة يوم الجمعة 20 من تموز 2012 أعلنت مجموعات المدينة حي صلاح الدين محرراً، بالتزامن مع دخول قادة المجموعات مع عناصرهم تاركين مقراتهم في الريف ودخولهم من الأحياء الغربية أمام أعين قوات النظام، وفي تحد كبير له.

لاحقا قطعت الطرق المؤدية إلى الحي ونصبت الحواجز وخرجت المظاهرة حاملة عناصر الجيش الحر على الأكتاف مطالبة جميع الفصائل بدخول المدينة، وتحت هذا الضغط وخشية محاصرة النظام لهذه المجموعات التي لا تملك من مقومات الصمود سوى الإرادة والشجاعة، وتجنباً لتكرار تجربة حي بابا عمرو في حمص ومع بزوغ فجر يوم الأحد 22 من تموز 2012 أعلن المجلس العسكري النفير العام وبدء معركة تحرير حلب.

بعدها بساعات أعلن لواء التوحيد عن بدء معركة الفرقان لتحرير حلب، حاشداً مقاتليه، الذين لم يكد ينتهوا من معركة تحرير مدينة اعزاز حتى توجهوا لتحرير حاجز بيانون ومخفر حريتان وحاجز آسيا وجميعها على الأوتوستراد الدولي (حلب – غازي عنتاب).

وقبل حتى أخذ قسط من الراحة، كان صوت صاحب النخوة والفزعة (أبو محمود حجي مارع) ينادي للاجتماع في مدينة تل رفعت، تلبية لنداء إخوانهم في مدينة حلب ملبين كعادتهم غير مترددين، منطلقين بصيحات الله أكبر في طرق فرعية عبر القرى وصولاً إلى أرض الحمرا ومساكن هنانو شمال شرقي المدينة.

وكان قد سبقهم الشيخ توفيق شهاب الدين قائد كتائب نور الدين الزنكي مع مجموعاته من أبناء الريف الغربي، الذين دخلوا كالأسود لا يهابون الموت، ومجموعة من أبطال لواء شهداء الأتارب بقيادة الملازم مرشد الخالد، سالكين طريق خان العسل -الراموسة -صلاح الدين، ملتحقين بإخوانهم من مجموعات المدينة مسطرين معا أروع ملاحم البطولة والشرف.

وبالتزامن مع إعلان حي صلاح الدين محرراً يوم الجمعة 20 من تموز 2012، كان في الغربي ليث ترتعد فرائص النظام لسماع اسمه من قادة المجلس العسكري، كان يقتحم أحد معاقل النظام المحصنة هي مدرسة الشرطة بالقرب من خان العسل واستشهد على أبوابها، وسميت بعد تحريرها باسمه، إنه الشهيد البطل الملازم أول أحمد الفج.

وفي الشمالي أسد هصور من ضباط المجلس العسكري أيضاً لا يقل عن أخيه الفج شجاعة وإقداماً، ابن ريف حماة الملازم أول رفعت خليل أبو النصر، القائد العسكري في لواء الفتح الذي بقي في الريف الشمالي يخطط لاقتحام وتحرير كتيبة الصواريخ في حندرات مع مجموعة من الأبطال، حيث أصيب بطلقة في جبينه وهو يتقدم الصفوف، وارتقى بعدها بأيام شهيداً بكت عليه حلب وريفها.

المصـــدر

المزيد
من المقالات