” والله مزعوج.. لأنه هاي الدبابات دباباتنا، وهذا العتاد عتادنا، وهالعناصر أخوتنا.. والله العظيم، والله العظيم، كل ما شوف إنسان مقتول منّا أو منهم، بزعل”.
بمداد من دم، على صفحات صدق خالدة لا تُطوى، كُتبت كلمات عميد شهداء حلب، يوسف الجادر، أبو الفرات، قالها قبل لحظات من رحيله، قبل لحظات من غيابه عنّا جسداً، لتبقى روحه بيننا ترفرف حارسة ينبوع الثورة الأول، ويبقى حضوره أبدياً في عقول وقلوب السوريين الأنقياء الأحرار.
كلمات لم تُقل في مؤتمر صحفي، لم يكتب ويدقق ويراجع، ترك اللسان ينضح من القلب، وكانت عيونه تنطق، قالها على رصيف مدرسة المشاة، في اللحظة الفاصلة بين التحرير والاستشهاد.
كلمات تصنع دستوراً، وطنا ومواطنا، سِلما وسلاما، لو يعي ذلك المشاركون في الحفلة التنكرية المُقامة في جنيف.
ثمانية أعوام على رحيل أبي فرات، وكأنّها الأمس، القلب كسير، والعقل حسير، واللسان معقود، وإنّا على جمر ما مت عليه يا أبا فرات قابضون.
شجاعة الأسد وخفة الحمام
أكثر الجبهات أهمية في حلب بداية التحرير كانت جبهتي صلاح الدين، وسيف الدولة، تفقدُها وتعزيزها ودعمها لا مناص منه، فالنظام حاول مستميتاً فتح ثغرات فيها بوصفها بوابة استعادته المدينة.
الإمكانيات في ذلك الوقت كانت محدودة للغاية، عدة وعتاداً وعدداً وخبرة، وكان لا يُعوّض ذاك النقص إلا بالرجال الأشداء من الثوار المخلصين، وهنا قرر الشهيد عبد القادر الصالح إسناد مهمة قيادة هذا القطاع المهم والحساس، لمقدم منشق اسمه، يوسف الجادر، أبو فرات، هناك التقيته أول مرة.
وربما البذخ في وصف الشهداء حد المبالغة جائز ومردّه الرثاء والحب والفقد، لكن شهادتي هذه يسهل أن تحوز إجماع كل من عرف أبو فرات، وشارك في تلك الجبهات.
أينما توجهت في ذلك القطاع أجده أمامي، ببدلته الزيتية المغبرة، وكان كما عرفت لاحقا لا يملك غيرها، وجه أسمر بشوش، في أخاديده اختزن كل أساطير الفرات الذي يُكنى به، هل هي مصادفة؟ يُقال إن تسمية الفرات ارتبطت بمعنى النمو والخصوبة، كان في حياته معطاءً خصباً ما بخل حتى بروحه، وفي غيابه ظل حضوره ينمو، كشجرة باسطة في كروم الذاكرة، اخضرارها أبدي.
وبعد السلام والتحية، سريعا يُجلسني إلى جانبه في “بيك أب” أحمر اللون منحه لواء التوحيد له، كان يسير بسرعة جنونية كعادته حين يتجه إلى الجبهات. من يقود بهذه السرعة إلى حيث احتمال الموت كبير، فهذا رجل غير خوّاف، يهابه الموت والعدو، يحث الخطا وكأن ما في صدره قلب أسد.
في ظروف الحرب، وخصوصا في أيام الثورة الأولى كان كل شيء واضحاً خالصاً لا وسط وغمغمة فيه، وخصوصا الحزن والفرح، فإذا فرحنا كانت فرحتنا مثل طفل توّسد ثيابا جديدة ينتظر صباح العيد، وإذا انسكب الحزن في قلوبناً كان ناراً تحرق الحشا.
في كل مرة ألتقيه، كان يتحدث بتلقائية فريدة ذاكراً حزنه على أبناء الطائفة العلوية التي عاش بين أبنائها لأكثر من عشرين عاماً.
كان يقول صارت “الطائفة العجوز” لكثرة من أحرق الأسد من أبنائها في متون الحرب، حرب جرهم إليها المجرم بشار الأسد وعصابته، دفاعاً عن السلطة، مستغلا فقرهم ورابطاً مصيره بمصيرهم. كان صادقاً يفيض الكلام منه فيضاً لطيفاً، كماء الفرات، له في حركات جسده خفة الحمام.
المُقدّمُ القائد الأمين
حين انشق الشهيد أبو فرات عن قوات النظام كان برتبة مقدم، وكان مقداما شجاعا، يعتبر بعض القادة أن تلك الشجاعة تصل أحياناً إلى التهور، يحاولون ثنيه عن المجازفة، وخصوصا حين كان يقتحم وبيده مسدسه الفردي، أما هو كان لا ينفك يقول: “القائد يجب أن يكون في المقدمة”.
ما يمكن قوله بشكل قاطع، أن الاطمئنان هو الإحساس الملازم عند مغادرة أي جبهة قتال يكون مشرفا عليها أبو فرات، كان الأمين، قائداً ومخططاً ومقاتلاً.
ثوار الخنادق
في آواخر ٢٠١٢، التقيت بأبي فرات، وعرض حينها خطته لتحرير كلية المشاة والقطعات العسكرية الملحقة بها، كانت معسكراً كبيراً محصناً، وكان متفائلا بنجاح العملية وبأقل الخسائر، رغم شح السلاح والذخيرة واختلال موازين القوى وخصوصا فيما يتعلق بالسلاح الثقيل، لكن أذكر قوله إن: “النصر لا يأتي بالطائرة ولا بالدبابة ولا بالصاروخ، النصر يأتي بالإيمان والعزيمة وعدالة القضية التي نقاتل من أجلها”.
قلدناه قبيل العملية العسكرية أنا والشهيد عبد القادر الصالح رتبته الجديدة (عقيد)، وكان قد اختار اسما للعملية، معركة ثوار الخنادق، مستلهماً إياه من الحدث الذي اجتمعنا لأجله في ذلك الوقت، وضم أغلب قادة حلب من عسكريين، ومن أعضاء المجلس الثوري الانتقالي، وكان الحدث هو تصحيح لخطأ ارتكبه بعض القادة حين أعلنوا “دولة إسلامية وأسقطوا الائتلاف السوري” وقد جرى ذلك استغلالا لبساطتهم من جانب جبهة النصرة، وتلا حينها البيان الشهيد أبو محمود.
البداية
بدأت المعركة بتحرير محيط الكلية، بما فيها قرية فافين وكانت مركزا للشبيحة، فجرى أسر عدد منهم، واندفع بعض المقاتلين يريدون إعدامهم، فتصدى لهم أبو فرات فاتحا ذراعيه يصرخ في وجوههم: “لا دينّا ولا أخلاقنا بتسمح إنه نقتل الأسير، إذا عملنا هيك، شو الفرق بينّا وبين عدونا المجرم”.
الحصار
خلال عدة أيام، تمكن أبو فرات والثوار من تطويق كامل كلية المشاة، أكبر المواقع العسكرية في الريف الشمالي، وجرت العملية من خلال تكتيك محكم، يعكس الخبرة القياديّة الميدانيّة، والاستطلاع الدقيق.
جهد أبو فرات والثوار في الضغط على العدو نهاراً باستهداف التحصينات وأماكن تمركز السلاح الثقيل داخل الكلية، والتنسيق ليلا لسحب أكبر عدد من المنشقين ضباطا وأفرادا، من داخل الكلية لإفراغها من كوادرها البشرية وإخراج العشرات من العسكريين المحتجزين داخلها الذين لم تسنح لهم الفرصة بالانشقاق بسبب القبضة الأمنية والمراقبة الشديدة على كل المداخل والمخارج.
ومن أهم التكتيكات التي اتبعها حرمان قوات النظام من الطعام الذي كانت تلقيه لهم الحوامات بالمظلات، باستخدام التمويه الدخاني بإشعال الدواليب والإطارات المطاطية وساعد في ذلك التمويه الرباني فكان الوقت مثل هذه الأيام شتاء والغيوم تملأ السماء، فكان الطعام يسقط عند القوات المهاجمة فعانت قوات النظام من جوع شديد، عزز أصلا انهيار معنوياتهم، امتد هذا الحصار والاستنزاف لأكثر من عشرين يوما.
ساعة الصفر
قبل يوم واحد من اقتحام مدرسة المشاة، زرت الشهيد أبو فرات، جلست إلى جانبه، وتحلقنا حول مدفأة في غرفة العمليات، فتح جهازه المحمول، وأسهب شارحا ما أنُجز، وكذلك خطته للاقتحام.
إعلان ساعة الصفر ارتبط كذلك بتوقف خروج أي شخص من المدرسة، انشقاقا أو استسلاما أو هروبا، ظل ينادي بسلاحه الأثير، وهو مكبر الصوت، يدعو الضباط والأفراد للانشقاق والنجاة بحياتهم.
كان خطابه يتضمن كلاماً من قبيل أن من يسلم نفسه هو أخ، لا تفريق بين طائفة وعرق ودين، يؤكد لهم أننا لسنا إرهابيين كما يصف النظام، الذي لا يريد منهم سوى أن يكونوا حطباً في معركته ليبقى على كرسيه يمتص خيرات البلد، ودماء أبنائه.
كنت أنصت إليه بكل جوارحي، ليس لما يقول فقط بل كانت عفويته وصدقه ساحراً، عذباً، تلقائياً.
الوداع الأخير
تعانقنا وودعته على أمل اللقاء في اليوم التالي في الكلية. وفعلا تم الاقتحام، تاركاً منفذاً واحداً لقوات النظام المُحاصرة تنجو منه باتجاه ثكنة التدريب الجامعي، ومنها إلى سجن حلب المركزي.
سريعاً تحقق النصر، وارتفعت أصوات التهليل والتكبير، ودخل أبو الفرات والثوار منتصرين مكللين بغار النصر، وجلس ليستريح على الرصيف مبتهجا بنصر ممزوج بمشاعر الحزن على العتاد وقتلى النظام الذين زج بهم الأسد في محرقة الدفاع عن سلطته وعائلته، وهنا قال كلماته المشهورة التي افتتحت بها.
دخل أبو فرات إلى مكتب مدير الكلية برفقة بعض القادة والتقطوا الصور التذكارية احتفاء بالنصر معلنين النصر والتحرير، طالباً إبريقاً من الشاي لم يسعفه الأجل بتذوقه. جلب التحرير مقاتلين لم يشاركوا في المعركة، استغلوا عمليات التمشيط وعاثوا مثل الجراد يريدون الاستيلاء على الغنائم، تعالت الأصوات طالبة من أبي فرات التدخل، وفي الوقت ذاته تعالت أصوات أخرى تقول إن النظام نفذ هجوما معاكسا من ثكنة التدريب الجامعي، فأسرع هو وقائدان تشهد لهم ميادين القتال، وهما الملازم أول أحمد طلاس أبو يزن وعمر بيانوني، ومعهم إعلامي مغوار هو أبو الوفا، أحمد ليلى.
كانت هناك عربة مختبئة تابعة لقوات النظام فاجأت القادة الثلاثة، فاشتبكوا معها، وكان يصرخ أبو فرات على القبضة: جيبو حشوة آر بي جي..جيبو حشوة آر بي جي .. .
لم يرحل أبو فرات ورفاقه في خندق، بل كان في أرض الميدان يواجه عربة مدرعة، كان في المكان الذي لطالما قال إنه مكان كل قائد، في المقدمة، وهناك استشهد، ليبقى أبد الدهر في المقدمة، يخط أسطورة عسكرية وشعبية، وطنية وأخلاقية، إنسانية قبل كل شيء.
تقبلك الله يا أبا فرات، يا عميد شهداء حلب، لك الجنان في الآخرة، والخلود في الدنيا.
أحمد يوسف الجادر، يُحدثكم
وددت أن يشاركني ويشارككم ابنه البكر، أحمد يوسف الجادر، حامل شعلة أبيه وحارس إرثه، وكلنا في هذا إخوة وأبناء لأبي فرات. وخصوصاً في تفاصيل انشقاقه، ففي تلك اللحظات أكثر ما يؤرق الرجل سلامة عائلته، وبنيه.
أنا أحمد يوسف الجادر، أكبر أبناء أبو فرات، كنا نقيم في مساكن عسكرية، كان يخدم في فوج دبابات في قرية اسطامو، التابعة لناحية الفاخورة في منطقة اللاذقية.
ليس بعيدا في الحفة اشتعلت الثورة، وطُلب من والدي كونه قائد كتيبة الدبابات التوجه إلى هناك، اتصل بي وأوصاني بالعائلة.
وفعلا تم تحميل الدبابات، باستثناء دبابة والدي، وتوجه الجميع عداه، طُلب منه التوجه إلى الحفة فوراً وجلب الذخيرة، وحينها لم يذهب.
حينها تواصل مع “مساعد” كان يخدم في الفوج ذاته، وسأله عن طريقة الانشقاق، وقال له إنه وصل إلى مرحلة لا يستطيع تحمل ضغوط القيادة عليه، ونسق معهم للانشقاق.
كان والدي مريض ضغط، وكان يُسمح لسائقه بالخروج إلى الصيدلية، وسلك والدي طريقا ترابيا من الفوج إلى المنزل في المساكن، ودّع المنزل وتوجه إلى الصيدلية وكان السائق بانتظاره، أخذ منه السيارة وتوجه إلى المكان المتفق عليه، وساعده ثوار الحفة بالخروج إلى مخيم الضباط وهناك التقى رياض الأسعد، بقي ليومين فقط وعاد إلى سوريا.
كنا جميعا حينها كأفراد عائلته في جرابلس، وكنا على تواصل معه، لكنه لم يأت إلينا فوراً، بل توجه إلى مدينة الباب، وسألناه لماذا لم تأت فورا إلى المنزل وخصوصا بعد ظروف الانشقاق وخوفنا عليه فأجاب: “بدي سدّ الدين لأهالي الباب، شبابهم ساعدوا بتحرير جرابلس وبدي ساعد بتحرير الباب”.
وفعلا هناك التقى بـ “حجي الباب” وأخبرني أنه حذر من خطط الاقتحام حينها لـ “الزراعة” فبدأ حينها الاستطلاع راكبا على موتور، وبعدها وضع خطة أفلحت في اقتحام المنطقة، وبعد أسبوع تحررت مدينة الباب، وحينها توجه إلى جرابلس والتقيناه أول مرة بعد الانشقاق.
لم يمكث كثيراً في البيت، قرر التوجه إلى مدينة حلب، وهناك قاتل في جبهات عدة، وقبل عملية مدرسة المشاة عاد إلينا، ومكث يومين، وقال: “عندي عملية مهمة بخلص وبرجع بقعد فترة بالبيت”.
شمس الكرد
كان هناك مقاتلا لصيقا بوالدي اسمه “شمس الدين” وهو عسكري كردي منشق، كان والدي يحبه كثيرا. وحين قرر والدي التوجه إلى حلب (للتحضير لعملية المشاة) سألته أين شمس، فقال: شمس بده يتجوز ما راح يجي.
وحين عرف “شمس الدين” قال: “ما راح اتجوز إلا ليكون أبو فرات حاضر”. ولم يتردد ولحق بوالدي إلى حلب.
خلال معركة كلية المشاة، كان والدي وشمس الدين يقومان بالاستطلاع، ابتعد والدي قليلا وجاءت قذيفة واستشهد على إثرها “شمس الدين”، علمت أن والدي انهار حزنا على شمس الدين وركع حينها على قدميه وحينها قرر اقتحام كلية المشاة.
كان جثمان والدي مسجى فوق أرض كلية المشاة، ولم يكن في خندق، كانت إصابته في الرأس خلف الأذن اليمنى، بشظايا بقذيفة دبابة.
لم يعد والدي كما وعدنا ليمكث معنا طويلا، بعد غياب وقتال طال منذ انشقاقه.
رزقني الله بطفلة وطفل، أسميت البنت فرات، والطفل يوسف، سأحكي لهما حكاية جدهما، قبل أن يناما وإلى أن يبلغا أشدّهما. هذا جدكما يا فرات ويا يوسف، هذه قصته وهي من أحسن قصص ثورتنا، وهذه الحرية له فيها سهمٌ وفضل.
كن إنساناً مثل جدك، كن سورياً مثل جدك، كن طيباً شفيفاً صادقاً محباً. هذا إرثك يا بني، إرث أكبر وأغلى من جبل ذهب، احفظه وانقله إلى أحفادك، أساطير “الفرات” لا تذبل ولا تجف ولا تموت، يا بني.