أدب الثورة صوتها المفقود

نوفمبر 29, 2022

إيمان محمد

مقالات

تخترق الأحداث التاريخية العظيمة مشاعر الشعوب فتلهمهم، وتحرك كل ما فيهم من مكنونات فلا يلبثوا أن ينطلقوا بكل ما أوتوا من حب وتفاعل وأن يوقدوا عبر أقلامهم وقلوبهم وكلماتهم وفنّهم حماس الشعوب، ويعبّروا عن تلك الأحداث بكل وسيلة، مستلهمين ذلك من شجاعة الأبطال وقصص التضحيات ودم الشهداء ومشاهد الإنسانية في أعمق صورها.

جولة سريعة في الأدب العربي كفيلة بأن تطلعنا عن الإنسان الجاهلي وقِيَمه التي كان يحملها، عشق القبيلة وعشق الحبيبة، وبكاء الأطلال، وحنين إلى موضع خيمة كان هناك، وتغزّل بفرسٍ مقدام، وصهيل يملأ الآفاق ويرهب الأعادي، فكيف بمدنٍ كانت تدبُّ حياة وأرواح كانت تملأ الدنيا بهجة، وأبطال يزلزلون الأرض هتافاً، وبطولات وملاحم، كيف لم تحرك وجدان الشعراء ولم تنادي ضمائرهم فيوثقوا اللحظة شعراً وأدباً؟!

يحفل أدبنا العربي عبر كل مراحله السابقة؛ بأخبار الحروب والمعارك، وصراع الحق والباطل، ومشاهد الإحجام والإقدام، ومشاعر الحب والبغض، الخوف والقلق، الطمأنينة والسلام، وتغدو اللغة هي الوسيلة الأهم لنقل التاريخ، ويغدو الأدب أهم ما تُنقل من خلاله اللغة على الصعيد المحلي والعالمي، ينقل الحدث برؤية خاصة، لا يجيدها إلا أديب حاذق أو شاعر ثاقب النظر، ولا يمكننا أن ننفي أبداً كيف حركت قصائد قديمة أو حديثة وجداننا فتفاعلنا مع أحداث لم نشهدها، ونقلت تاريخاً ببراعة وفن، وتحدثت عن أبطال لم نسمع بهم من قبل، فباتوا وكأنهم من أفراد عائلتنا قرباً ومكانة، وكيف أننا

حين عشنا الحدث، وفتحت لنا بوابة التاريخ طريقاً للعبور، وجدنا  أنفسنا وحيدين في ساحة خاوية، فقيرة كلمة وأدباً وشعراً، فنَّاً ولحناً، خاوية من الروح والنبض والمعاني، ولنشهد أقلاماً كانت لامعة قبل الثورة في البيئة الطبيعية الهادئة، ولكنها تراجعت واختارت الحبر الرمادي لتكتب فيه بدلاً من أن تكون لها وقفة حق مع حدث بهذه الأهمية الإنسانية والتاريخية.

من المحزن قليلاً أن  نتلمس بأيدينا اتساع الفجوة التي تركها شعراء وأدباء معروفون في الساحة، اختاروا مساندة السفّاح طلباً للأمان المُذل، فخسروا الجوهر للفكرة، والمعنى للحياة، وخسروا أنفسهم بانحيازهم الضال، وفقدوا احترام الأدب لهم، فسجلهم التاريخ في قائمة المدّاحين للسلطة، المعتاشين على ما تصدره إليهم من فُتات، غير أن غيابهم هذا حفّز اللون الشبابي الشعبي في الثورة أن يأخذ حظه من الانتشار، نجد القاشوشيات في بداية الثورة انتشرت أكثر من القصائد المدبجة للنخب التي همشت نفسها عن الساحة، ونجد هتافات الساروت باتت نشيد الثوار الوطني، وترانيم الأطفال حين يلعبون، وأغنية النساء في الحقول عند الحصاد، وصوت الفرح في الانتصارات ولحظات الفرح العابرة السريعة.

بتنا نجد الشباب يحاولون بإمكانات ضعيفة ومحدودة سد هذه الفجوة، بجهد مشكور، قد لا يجده النقاد اليوم في التقييم الأدبي على قدر من الأهمية، لكنه دون شك وثيقة مهمة، وشهادة لازمة، وخطوة على طريق التطوير والاحتراف.

ما نفهمه تماماً أن شباب الثورة قرروا منذ اللحظة الأولى ألا يتركوها يتيمة، خلقوا أفكاراً جديدة، وطوروها، شقوا السبل الصعبة ومهدوها، وقاوموا كل حالات التشتت والقلق والخوف والتهديد ليكتبوا، ليرسموا، ليوصلوا صوتاً، فكان أن وصلت أصواتهم إلى ضمائر الشعوب، ولامست كلماتهم مكتوبة أو ملحنة كنشيد وجدان الإنسانية، فحققوا ما لم يحققه الكبار الغائبون عن الساحة، الذين مازالوا سجناء حالة الاستقرار الوهمية، يكتبون

عنها وكأن قيامة لم تَقُم، يكتبون لشعب لم يعد كما هو في ذاكرتهم القديمة، وينشرون فوق رفوف تعلوها الغبار، يسألون من الدنيا سلامتهم، ويحصلون عليها، غير أنهم لا يحصلون على شيء سواها، من تفاعل الشعب واحترامه.

بقي أن نفكر كيف للأصوات الصادقة الشابة أن تصل، وكيف لها أن تمتلك الأداة وتحترف، وماذا يتوجب عليها أن تفعل لتستمر نبضاً وهمة، لتحفر في هذا العالم نفقاً إلى الحرية والحياة والكرامة، وكيف أن تغدو الكلمة مرسالاً في مساره الصحيح.

ما يتوجب علينا أن نساهم فيه أن نولي اهتماماً كبيراً بجانب العلم والقلم، ألا نقبل بسقف تعليم منخفض، ومناهج تعليمية فقيرة، ومدرسين لا يحملون الفكرة، وأن نطالب الجامعات الحالية بالعمل على بناء مختلف، يلتفت إلى المواهب، ويشجع الإبداع، ولا يقتل الفكرة تحت تبريرات الحالة الطارئة، ولابد حين نتمنى ونحلم بأن تصل فكرة الثورة وأحداثها بقالب يليق بها من حيث الجودة والإنتاج أن تضخ بعض جهودنا في هذا المجال، فإننا لا نخاطب العالم عبرها اليوم فقط، بل نخاطب أجيالاً قادمة نتحمل أمامها مسؤولية إيصال الفكرة، لئلا تتكرر المأساة، ولأجل أن يستمر الحلم، أمامنا كثير من العقبات، ولكن أمامنا من الفرص أكثر، والثورة تستحق وأكثر.

المصـــدر

المزيد
من المقالات