أكثر ما يثير دهشة أي إنسان يتعرّف إلى معاناة السّوريين عن قرب؛ كمية الصّبر والقوة التي اكتسبوها خلال سنوات المعاناة، ولعل سنوات الثورة الأخيرة فرضت تساؤلاً جديداً حول صبر السوريين الذي تأخر أربعين سنة عن موعده، هل كان صبراً حقيقياً؟ وكيف استطاع النظام الحاكم في سوريا تحويل فكرة الصبر من فاعليتها الخلاقة، إلى حالة من الصبر السلبي، والمرتبط بالصمت والعزلة، والابتعاد عن الشأن العام، والاقتصار على الهموم الذاتية، ومتابعة العيش في أدنى حد ممكن من الحياة، إضافة إلى القبول بتكميم الأفواه، تحت شعارات وعناوين كثيرة.
حين نقارن ذلك الصبر القديم المرتبط بالخوف والسلبية وغياب المعنى من الحياة، بصبرهم منذ اليوم الأول للثورة وحتى يومنا هذا، يمكننا أن نلمس حقيقة الاختلاف الجوهري الذي حصل، فبالرغم من كل التجارب الصعبة التي خاضوها، والمرارة والويلات التي طحنتهم، وبالرغم من مليون شهيد قضوا في سبيل الحرية، ورغم تجارب الرعب والخوف والاعتقال، ومراحل الحصار ومعاناة النزوح والتهجير، إلا أن الصبر السوري هنا له مقياس مختلف، ووقع مختلف أيضاً.
نحن الذين كان يدهشنا في بدايات الثورة صبر أمهات الشهداء، وتغلبهن على أحزانهن بكثير من القوة والإيمان، وتذكر سير أبنائهن المعطرة بالتضحيات، بتنا نعجب أشد العجب بعد سنوات الثورة الطويلة التي مضت من أمهات يحملن وابلاً من التجارب المؤلمة، والذكريات الحزينة، ومع ذلك فقد قررن ألا يتقوقعن في دائرة الذات، ولا يقبلن إلا بخوض غمار الفاعلية والعطاء وتقديم المساندة لمن مررن بتجارب مشابهة.
الأمر ذاته مرتبط بالمعتقلين ومدى قدرتهم على الصبر في أسوأ الأمكنة والظروف والأحوال، حيث يُشاهد الموت عن قرب أكثر، بل يُصبح في كثير من الأحيان حلماً وأمنية، حتى في مرحلة ما بعد السجن – إن كتبت له النجاة- فالصبر على حياة اختلفت فيها كل المفاهيم والموازين أمر يغدو أقرب للمستحيل، ومع ذلك نجد إصدارات ومؤلفات عن تجاربهم، ومؤسسات يعملون فيها بكل طاقتهم، ويقدمون العون لمن هم في واقع أصعب وفي حالة أصعب، ليغدو صبرهم هنا وقوداً ودافعاً للتخفيف عن الآخر.
لقد أثبت السوريون لأنفسهم أولاً وللإنسانية عموماً مدى قدرتهم على الصبر الفاعل، والصبر الجميل، ولعل أخطر ما قد يهددهم هو أن يفقدوا هذه القدرة فيستسلموا لواقع رديء في مرحلة تحتاج صمودهم وثباتهم وإصرارهم على ثورتهم، وإن من الضروري أن يدرك كل إنسانٍ منا أنه مطالب بالصبر، ليس بمعنى احتمال الأذى حتى الموت قهراً، ولا اجترار الأحزان والاستسلام لها وكأنه ندبٌ غائرة ولابد من إخفائها ودفنها.
نحن مطالبون بصبر حقيقي لا يخفي الوجع، بل يعمل على علاجه بكل وسيلة، ولا يتظاهر أن كل شيء على ما يرام فقط لأنه أفضل الموجود، بل يضع يده على الخطأ، ويبحث عن كل الحلول الممكنة، ولا يتقاعس عن العمل للاقتصاص من الجاني، فكل يوم يمر والمجرمون في مواقعهم فهذا يزيد مدة الألم، ويزيد عمق المعاناة.
لا خيار من الاستمرار على طريق الثورة حتى ننتصر، وفي اللحظة التي نتعب فيها ونرغب أن نوقف كل شيء، لابد أن ندرك أننا نوقف بذلك حياة حقيقية في ظل الكرامة والحرية، وبأننا نتخلى عن أسمى ما نحيا لأجله؛ أهدافنا العليا، قيمنا وثوابتنا، عهودنا والتزاماتنا، وواجباتنا تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا.
وعلى درب الصبر الطويل، فإن قناعاتنا المهزومة بأنفسنا وقدراتنا هي أهم ما يجب تغييره، وكما استطعنا أن نعبر أزمنة من الشقاء ونستمر بإنسانيتنا، وكما لم نملّ لحظة عن المطالبة بحقوقنا وحقوق شعب كامل بكل ما نملك من شجاعة وجرأة، فإن بوسعنا الانتصار دائماً، مادمنا نقضي حياتنا وكل ما فيها إلى جانب الحق.