قد يظنها بعض النّاس سذاجة أو جنوناً، أن يبقى الإنسان في أرض حُكم عليها بالاحتلال والحرق، أن يبقى تحديداً ضمن المحرقة، ماذا إن لم يكن بقاؤه فيها عبثياً، ولا مصادفة، ماذا إن كان هناك بهدف دفع الحريق وإطفاء الحمم؟ هل ستكون ردّة الفعل تجاهه أقسى؟ ربما، فهذا حال كل من يسبح ضد التّيّار، وهذا حال شباب الثورة منذ الشرارة الأولى، وحتى اللحظة!
تتوالى الاجتماعات لأجل الشأن السوري، اتصالات هاتفية، اتفاقات دولية، قرارات سرّيّة وأخرى معلنة، وإعصار من الشائعات يأخذ مداه في كل أرض، وفي قلب كل إنسان، لقد خُذلنا، وخاننا الجميع وبقينا وحدنا في مهب المعركة، وبتنا نُرمى بسهام أهلنا بتهم غريبة، “باعوها” وكيف نبيع أرضاً حرسناها بأرواحنا وفديناها بدمائنا؟ من بوسعه حل المعضلة؟
هذه حال الثوار الذين يقاتلون اليوم وهم يعلمون تماماً أن نسبة الأمل شحيحة، وبأن العدة والعتاد لا يكفي لردع دول تمتلك الطائرات والأسلحة المتطورة التي تجرّبها في شعب كامل مجرّدة من أدنى صفات الإنسانية، كل شيء يدعو للاستسلام والتسليم لكنهم لا يفعلون، فخيار المتابعة هو خيار الثائر الذي قرر ألا يستسلم، ينتصر أو يموت، وهو ضمن هذه الحالة يقاتل، وهو إذ يقاتل لا يدافع فقط عن الأرض والإنسان، بل يدافع عن المبدأ والفكرة، فكرة الحق الذي قد يتسلل للناس شعور أن لا أحد يسانده، وبأنه مشاع لكل طامع، وفكرة أن الحلّ هو في الصمت والتنازل والخنوع، وبأن هذا درب الإنسان الأبدي على الأرض، فكل ما عليه هو أن يسكت، وأن يمضي الحياة بأقل ضرر ممكن، هذه الفكرة التي دفعت الجميع للتمادي والتطاول والإفساد، حتى غدا هذا الفساد هو السمة الغالبة، والمرتبطة بدولٍ وشعوب تتخذ طريقها بسرعة نحو الانحدار والسّقوط.
ولأجل ألا نسقط ونحن أصحاب الكرامة، ولأجل أن تبقى القيم التي نحملها هي الأساس الذي نورثه للأجيال القادمة، كان على كل ثائر حرّ منا أن يقاتل وأن يدافع، وأن يدفع الثمن الكبير لقاء ذلك، وهو إذ يرسّخ فكرة بحضوره وأفعاله لدى الشعب الكريم المُستضعف، فهو يرسخ مقابلاً لها أفكاراً أخرى لدى العدو الذي يُقاتل قتالاً أعمى، فهو برصاصة تخترق جسده يجعله يُبصر، وبعطب دبابة كان يظن أنها ستهزم الثوار فإذا بها تتحول إلى قطع خردة، يجعله يُبصر، وهو بإسقاط طائرة تقصف الناس، يتعالى بها، ويظن أن الشعب الحر تحت قدميه، فإذا بالطيّار ساقط تحت أقدام الثوار فهذا يجعله يبصر، فإن أبصر؛ رأى الرعب يتجلى في كل ما حوله، ورأى أمامه أبطالاً يقاتلون بشجاعة رغم قلّة ما بأيديهم، ولعله يتوهّم أحياناً أن ما بأيديهم سلاح أقوى مما يتخيل، غير أن الحقيقة أنهم يتسلحون بإيمانهم وإرادتهم الحرة.
ولعل هذا الثائر إن التفت وراءه، لرأى انطباعات الناس تختلف كثيراً عند الانتصارات، ما بين بهجة واحتفاء، لكنه لا يحفل كثيراً بما يحفل به الناس، فهو يكتفي فقط بمراقبة ذلك الفرح بشيء من الرّضا، وكأنه يحمل زوادة الطريق من ابتساماتهم ثم يمضي وكأنه بينهم عابر سبيل، أو شاهد على الحدث، لا وقت لديه للبقاء وتتبع آثار الخبر وتحليلاته، فهو منشغل بصناعة خبر آخر لم يحدث بعد.
وقد يعلم أن صورته قد تُنشر يوماً وفوقها لقب الشهيد، وقد يعلم أنه قد يرحل دون رجعة، فقد لا يترك له الطريق لوعورته أثراً، ومع ذلك يمضي بإرادة وعزيمة كي يؤلمهم، ويصّدّر الخوف إليهم مرتداً ارتدادة المهزوم بعد أن فشل في تحقيق غايته، وأما الذي يتلقى ضربته الموجعة على الطرف الآخر، فكلّ جزء منه يتشظى، إذ لا يُخيّل إليهم بعد كل هذا الحشد أن يصادف الموت والرعب والألم، ولا غرابة، فهذا حال من يتحدى ثائراً، أن يبقى مهزوماً أمامه إلى الأبد.
يُقاتل الثائر الحرّ في كل ميدان ليحفظ شبراً من أرضه عزيزاً، وهو يعلم تماماً قيمة هذا الشبر، ولو لم يبق له غيره، سيقف عليه ويقول كلمته، سيلعن الطغاة سراً وعلانية، سيلعنهم في مواقفه، وفي أحاديثه الودية وغير الودية، في تواصله مع العاملين والقاعدين، مع اليائسين والطامحين، مع حملة الفكر وحملة البنادق وأصحاب الأيدي والقلوب والعقول الخاوية، لأنه يدرك أن فيه الكرامة، وميلاد مجتمعٍ سوي، وفيه الجنّة الأرضية خالية من ملامح القيد والاستبداد واحتكار الإنسان، يقاتل لئلا تنحرف البوصلة، ويلتبس الحق بالباطل، ويعم اليأس من الحرية، من الحق، ويقاتل ليترك رسالته للجيل القادم، لمستقبلٍ قد لا يكون فيه، لمعارك أصعب قد لا تكون عسكرية بالضرورة، لا يتسنى له المشاركة فيها، يقاتل الثائر لأنه يشعر أن ما يقوم به اليوم هو الصواب، وليس الصواب هو العقل المجرّد بالضرورة، ولا العاطفة المجردة أيضاً بالضرورة، ففي داخله التحام العقل والقلب والروح، يتابع الثائر دربه في ميدان القتال وميدان السياسة وميادين الإنسان لأنه يدرك أن المتابعة خياره الأوحد، وبأنه لو امتلك شبر أرض؛ سيرفع عليه الأخضر، ولو سُلب منه هذا الشبر، سيعلنها ثورة أخرى ما بقي حيّاً ويقاوم.