يصعب جداً، بل يكاد يكون مستحيلاً أن تعود بمشاعرك إلى بدايات الثورة، فتحياها كما هي، بقوتها، بعنفوانها، بصدقها، بشعبيتها، بطهرها ونقائها. ذاك شعورٌ لم أصدق أن بالإمكان استعادته بعد الغربلة والخذلان والضفادع والتقلبات الكبيرة التي حدثت داخل الثورة، مما أفقد الناس الثقة بمتابعتها، وأفقدهم الثقة في أنفسهم فتراجعوا عنها.
لا أحد يعرف كيف تتغير الأمور، ولأي سبب تنقلب الموازين، شهيدٌ واحد، شاب صادق واحد صنع الفرق وعاد بنا إلى زمن المجد، وقد أعادني مشهد تشييع الساروت إلى 2011 إذ كان الجميع على قلب واحد، وحيث تجلت روح الثورة ونبضها، وحيث كان للشهداء والدم المُراق في سبيل إحقاق الحق قيمة، وحيث كان الناس يغارون على قطرة الدم، ويتألمون لرحيل المخلصين.
هل كان الساروت يعلم أن شهادته التي حلم بها منذ البدايات، وتخيلها في صور شتى، ولاحقها عبر سنوات الثورة الطويلة وأحداثها العصيبة فلم يظفر بها، هل كان يعلم أنها أتته اليوم في الوقت المناسب، بعد أن بهت وجه الثورة، وخُذلت كما لم تخذل ثورة من قبل هل كان يدري أنها ستنعشها وتحييها، وأن تشييعه سيكون بعظمة أهدافها، وبعظمة شعب آمن بها إلى هذا الحد؟
رغم كل الأحداث العاصفة والمؤثرة التي مرّت بنا في الثورة، يصعب كثيراً نسيان مظاهرة واحدة من مظاهرات السّاروت، لا يمكنني إحصاء عدد المظاهرات التي كانت تخرج من مساجد مدينتي حمص كل جمعة، لكن المظاهرة الجامعة كانت مظاهرات الساروت، يأتي إليها شباب الثورة من كل أنحاء حمص، بل ومن مدنٍ أخرى، ليشهدوا هتاف الساروت، ويشاركوا خلفه حتى تبحّ أصواتهم، ولا يغادروا إلا وقد تجددت دماء الثورة في عروقهم، فكانوا يعبرون عن تلك المشاعر بطرق مختلفة، ويتناقلون كلماته ويحاكون أسلوبه بالهتاف، ولا يستطيعون مواكبته في التفاعل مع الكلمة.
أذكر في المظاهرة الأولى التي شهدتها معه أنه طالب الجميع أن يرفعوا أيديهم لأعلى، لأعلى أكثر وكأنها تعانق السماء، لم أفهم المراد حتى بدأ يخاطبنا بأننا سنؤدي قسم الثورة، وكعادتي لم أجازف بالقسم حتى أعرف على ماذا أقسم، ولما عرفت كنت أحزن عندما تخلو المظاهرات من القسم، ففيها تجديد العهد، ودعوة للاستمرار مهما كان الثمن، كان الساروت دائماً يحب أن يختتم مظاهراته بسورة النّصر، وكأنه يرسل رسالة مغزاها ضرورة السعي فهناك نصرٌ وفتح مبين لابد سيأتي ولابد أن نصرّ على قدومه.
مع بداية حمل السلاح لم يتردد الساروت في القتال لأجل الحق والكرامة، حوصر وصبر، وكانت المعنويات العالية تصل للعالم عبر إصراره وكلماته، رحل عنه رفاقه كتيبة شهداء البياضة، فلم ييأس ولم يستسلم رغم الانكسار وهول الفاجعة، وبعد التهجير تقلب في مسارات عدة كان يبدو جلياً منها أنه يفتش عن من يعينه على المقاومة، ثم أدرك بعدها كيف يتجه إلى الصواب ويعود للهدف الصحيح، أخذ موقعه في النهاية كأسد مغوار، ووقف على الجبهات بشجاعة، ودَّعنا قبل ليلة كعادة الأبطال بالقوة والعزيمة والإخلاص، أصيب ثم غادرنا بشموخ، ولن يغادر الذاكرة، لن يغادر اسمه الثورة مهما حاولوا طمسها أو تجاهله، مثل الساروت لا يمكن نسيانه أو تجاهله أبداً.
لن يفرح الشامتون برحيل الساروت أبداً، فالإنعاش في الثورة واقع، تواكبه أحداث مهمة على جبهات ريف حماة وريف إدلب، رفاق الساروت من خيرة شباب الثورة يقفون ليدافعوا عن أرضهم ببسالة، تتزاحم المعاني ما بين فرح وتأثر وتأمل لما يحدث، من حقنا أن نشعر بشيء من الفرح حتى في اللحظات الفاجعة التي يتركها رحيل أبطالنا، فطالما هناك من يضحي ويثابر سيستمر الأمل. هنيئاً للساروت تحقيق حلمه، لقد حقق ما هو أكثر من حلمه، لقد ترك نجمة في السماء تضيء لتخبر عنه، كلما فكر النسيان بالعودة سيطارده صوت الساروت وهو ينشد للوطن من بعيد.. جنة جنة.