مسعفة ميدانية في الوعر، يعرفها جميع من يمر بمشفى الوليد مصاباً، أو مرافقاً لمصاب، أو باحثاً عن شهيد، تستقبله باندفاعها العفوي، بعاطفة ثائرة أقسمت أن تتابع طريق الثورة بكل ما أوتيت من طاقة، تقوم على المساعدة بإخلاص، تمسح على جراحهم بأكثر من قطعة “شاش” مصنعة محلّياً، وأكثر من معقّم، تحاول أن تكون يدها أقل وخزاً في الإبر، ومواساتها أبلغ أثراً، تستقبل في ثلاجة الموتى الخاصة في المشفى الشهداء وتودّعهم كأم ثكلى، أو أخت فقدت أخاها البطل، وكأنها الخنساء تبكيهم، ترثيهم، تواسي أهلهم، تستودعهم الله وخير أعمالهم في قبورهم، ثم تعود للعمل وكأنها شحنت طاقتها من دعواتهم المخلصة.
رغم أنها خريجة جامعية بتخصص مرموق، اختارت أن تكون مسعفة تتنقل بين أنين الجرحى، وتهافتهم على المشفى الوحيد الذي يعمل في الحي، بإمكانات ضئيلة، كنت إثر كل قصف أزور المشفى لأقدم شيئاً من معنويات لمن يعانون، فأجدني أكتسب بالمقابل جرعات مضاعفة من الأمل، حيث الكوادر الطبية لا تهدأ ولا تمل، تتجدّد مهما خارت قواها، وهي تدرك أن مساعدة الناس هي الخيار الأوحد، فلا سبيل للتوقف لأن صواريخ الموت لا تتوقف أبداً.
كنت أشعر بطمأنينة وأنا أراقبها تعمل، تعارك الحياة وتسمح لنفسها أن تحلم أحياناً بمتابعة الدراسات العليا، أو الدراسة الجامعية في المجال الطبي الذي وجدت نفسها فيه فجأة، واكتشفت مدى ارتباطها به، وفقدت فيها كثيراً من زملائها وزميلاتها، كالممرضة الشهيدة منال المبارك، التي كانت تعتني بالكادر الطبي كأم، تطهو لهم، وتتفقد أحوالهم، قبل أن تباغتها رصاصة القناص وهي عائدة ليلاً إلى منزلها، فتغادر مسرعة إلى الجنة!
هناك، في مقبرة الشّهداء، حيث حوّلها الثوار لحديقة زهرٍ ساحرة، وأعطتها أسماء الشهداء وأضفى عليها حضورهم هيبة وجلالاً وجمالاً، كانت سيدة تجلس تحت ظل الشجرة، تراقب قبر ابنها في صمت، ذلك القبر الذي اعتنت به كما تعتني أمٌّ بجهاز ابنها العريس، يصعب أن أعدّ أنواع الزهور والنباتات العطرية التي حفّت ذلك المكان، وكأنها تحاول أن تقول له شيئاً، ربما كانت تود إخباره كم هي تحبّه، وكم تشعر بوجوده حيّاً في حياتها، تخاطبه، وتؤكد لكل من يعبر بها متسائلاً، بأن الشهداء أحياءٌ عند ربهم يرزقون، ثم تمضي لتعود في اليوم التالي تأنس به ولعله يأنس بها.
لا يمكنني نسيان سلسبيل، وهي ترسم يداً ثائرة تبذر في الأرض شيئاً ما، كرامة ربما، حرية، عدالة، لتنبت الأرض أيادٍ ثائرة، تنعكس في عيون المارّة، يتأملونها ويفكرون بعمق عن معنى الجدارية، شيء ما يحفز على الحياة.
يوماً ما حصلنا على كنزٍ في الحصار، كانت عبوة بخاخ ملون باللون الأزرق، سألتها أيّ عبارة تختارين لأكتبها، سكتت لحظة وقالت: اكتبي: نحن وحيدون، كآلاف الوحيدين في هذا العالم! وكتبت، لتتلاقى وحدة الجميع، وتشكّل كُلّاً، مجتمعاً من الثائرين، أصحاب القضية، المتروكين وحدهم في هذا العالم، وهم مع ذلك يتابعون ويقاومون.
حنان كانت من طراز مختلف، ترعى الأطفال بحنانٍ غير محدود، وكلما لاحت بادرة قف تسارع لتأمينهم في أقرب ملجأ، هناك حيث تضبط أعصابها فوق العادة لتبدو طبيعية ومرتاحة وسعيدة، وتبدأ تنشد معهم الأناشيد المرحة، وتلقنهم الأدعية التي تشعرهم بالطمأنينة والأمان، دمعة حنان كانت قريبة، لكن ليس أمام الصّغار، في كل المواقف التي أرغمتها على الابتعاد عنهم كانت تبكي، لكن بكاءها صار كبكاء طفلةٍ صغيرة، يوم نظرت حولها فلم تجدهم، لقد تشتتوا إثر التهجير القسري في كل المدن والأرجاء، أقابل طلابها مصادفة، فيذكرونها وتدمع عيونهم، فهي تذكرهم بالزمن الجميل، واللحظات السّعيدة، وياللعجب! إنها لحظات القصف التي كانت تحوّلها بسحرٍ خاص إلى لحظات سعادة وأمان.
لا يمكن حصر أسماء ولا أعداد النساء السوريات العظيمات اللواتي قدمن للثورة، بل للإنسانية ككل، شيئاً من جمالهن وبصماتهن وعطائهن، كما لا يمكن حصر أعداد اللواتي يعملن حتى هذه اللحظة من أجل قضيتهن المحقّة، وإن قدمت جزءاً من مشاهداتي، فأنا على يقين بأنني لم أنصف من ذكرت، ولا اللواتي لم يتسع المجال لذكرهن.
ربما يتذكر العالم في الثامن من آذار- يوم المرأة العالمي- الأم تيريزا وأعمالها الإنسانية، أو أون سان سو تشي رمز الشجاعة في بورما، ربما يطالب العالم بحيّز حضور أكبر للمرأة، لتوصل صوتها، ربما يتحدث عنها بشيء من الشفقة والمأساوية، وكثيراً ما سيتجاهل تضحيات النساء السوريات، وحضورهن، شجاعتهن وقوّتهن، سيتجاهل كم باتت السجون السورية ممتلئة بهن، فقط لأنهن كُن شجاعات أكثر من اللازم، ومكافحات فوق السقف المسموح به في هذا العالم!
ستواصل النساء السوريات عملهن باتجاه الشمس، سيتجاهلن السقف الذي يجبرهن على الانحناء، وغالباً ما ينساهن التاريخ، لكن حضورهن محفور في ذاكرة من عرفهن، مكللاً بالتقدير والاحترام.