ليَسلم التاريخ من العبث

نوفمبر 29, 2022

إيمان محمد

مقالات

يُحكى أنّ والدكم قد تآمر في فتنة أطلقوا عليها “الربيع العربي” مع مجموعة من المندسين لتقويض أمن سوريا، واعتقلوه في مظاهرة خرجت للتخريب، واتهموه بأعمال غوغائية، وظل سجيناً هناك، لم أكن أود أن أخبركم، ولكنها الحقيقة، أما خالتكم فقد أجرمت بحق أهلها وأسرتها حين انضمت للثورة، لم تكن ثورة بل إرهاباً، اعتقلوها شهوراً طويلة لعلها تعود إلى رشدها، ولما خرجت كان على الجميع التبرؤ منها، فقد جلبت العار لمن حولها، فما كان منها إلا أن اختارت السفر، أما صور خراب المدن سببها إرهابيون مثلها، ومجرمون أصيبوا بلوثةٍ في عقولهم حين خرجوا على الوطن، وحاربوا سوريا الأسد.

لعل الأحداث السابقة حين تُروى اليوم تبدو على سبيل التهكم أو السّخرية، فالمجرم الحقيقي واضح، والظالم والمظلوم معروفان وإن عمّ الصمت بسبب الخوف، ولكن، بعد سنوات طالت أو قصرت قد تُطمس الحقائق، ويُزيّف التاريخ، وكيف لا يفعل وهناك حشد قوي في هذا الاتجاه، وأعمال توثيقية لهذه المرحلة لا علاقة لها بالموضوعية أو الإنصاف، تبرر للجاني، وتتهم الضحية، حتى ينسى الناس مع تقادم الزمن، أو تلتبس عليهم الحقائق، ويصعب معها حينئذ الدفاع عن المظلومين أو اتهام المجرمين، وهكذا يُسرق التاريخ عندما يسمح له أصحاب الحقوق بأن يُسرق.

بسهولة غير متوقعة يتحول الإنسان صاحب القضية إلى مجرم منبوذ ومضطهد، فقط لأن الخوف في سوريا هو السيد، يحاول العقل التبرير للجاني واتهام البريء لعله يقوى على التعايش، وهو في قرارة نفسه رافض للظلم كاره له، ولكنه عاجز عن الحيلة، هذا ما حدث في الثمانينات، ويتكرر جزئياً في يومنا هذا، بعد قيام ثورة عظيمة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، قدم الشعب فيها ويقدم كل ما يملك ليتحرر من قاتله وسجانه، ولأن حبل الكذب قصير، فتشويه التاريخ لن يكون أمراً سهلاً بالنسبة للنظام وحلفائه، بل سيكون وصمة عار جديدة، وجريمة تضاف إلى جرائمه، وهو وإن أحرق سجن تدمر ليخفي جرائمه، إلا أنه لم يستطع إخفاء ” القوقعة” -على سبيل المثال – من أسواق الكتب، ومن العقول، لتبقى شاهدة على الفظائع المرتكبة، والمنهجية التي تطبّق على الأبرياء بشكل مضاعف في يومنا هذا.

لقد كانت صفحات التواصل الاجتماعي تتجند في بدايات الثورة لسرد قصص المعتقلين وشهاداتهم، تماماً كما تسرد قصص الشهداء وتضحياتهم، غير أن تلك الصفحات بما تحتويه من قصص قد طويت بالتقادم، وبات التدوين الإلكتروني هش البنية أمام محاولات الغزو والقرصنة، ولم ينج إلا ما كُتب على ورق من كتب وأبحاث وروايات وأعمال أدبية أو أفلام ووثائقية عن الثورة وكفاح الشعب وبطولاته، وصموده وتضحياته، وقهره وآلامه مما كتب لها الحفظ والنجاة.

ولأننا لم نخرج من العدم، ولا نود الرحيل إليه، ولأننا شعب بفطرته يحمل الأصالة ويحب الرسوخ طالما يتّبع الحق وينادي به، ولأن تجربتنا الثورية تختلف عن أي تجربة أخرى، وتضحياتنا تضرب عُمقاً في الأرض، كان أقل الحقوق المعنوية أن نحفظ كرامة من اعتقلوا ومن استشهدوا، ومن آمنوا بالثورة وأخلصوا لها، فلا نقبل بالزيف والتضليل، ونجسّد تكريمنا واحترامنا لهؤلاء في سلوكنا وأقوالنا وأفعالنا، في قيمنا التي ننادي بها، وفي الخطاب الذي نوجهه من قريب أو بعيد، لابد أن نجسد تلك الحقوق أفعالاً واضحة في حياتنا، تُترجم في وعي الشعب وتتحول بطريقة تلقائية إلى تاريخ وكتب وقصائد وفن يُخلّد، ويمتلك القوة والعمق الكافيين لمتابعة التحدي والمقاومة، لابد أن نقاوم الزيف بالإرادة، والعجز بالحركة، والصمت بالقول الحق والفعل الحق، فإن زينت لهم نفوسهم المشوهة تدليس التاريخ وتلبيسه بأفكارهم، فقد أصبحنا في عالم أكثر انفتاحاً عما عهدوه، وأكثر اتساعاً وقدرة على احتواء الفكرة الصائبة وإيجاد منابر لها، المهم ألا تتلوث القناعات، وألا يُترك الضعفاء سُدى، وألا يبلغ الصمت مبلغه، فيتحدث من لا يجيد الكلام ومن يزيفه، أما الحرب فستبقى سجالاً تتعدد أساليبها ولا تنطفئ لينال أهل الحق شرف النضال، وينال الظالمون العار وإن ظنوا بأنهم سلموا أو انتصروا.

المصـــدر

المزيد
من المقالات