خيوط الوهم

نوفمبر 29, 2022

إيمان محمد

مقالات

بعيداً عن المشاريع التي نشأت من قلب الثورة وهمومها، والمشاريع التي تشكلت من وجع الشعب وآلامه، وتلك التي صنعت شيئاً من لا شيء، وحققت أثراً مهماً في أقسى وأصعب ظروف ممكنة، وبعيداً عن أصحاب القضية والهم الذين يعانون فرادى أو جماعات ليبقوا شعلة الثورة مستمرة، وليضخوا روحها في كل مضمار، بعيداً عن أولئك الذين لا يتسرب اليأس يوماً إلى قلوبهم، لأنهم يعرفون تماماً وجهتهم وطريقهم، ولذلك تجد فيهم مخزوناً للأفكار الفاعلة، التي تحفر في العمق، وتترك أثراً مهما تنكر العالم وتجاهل وجودهم، أو حاول تجفيف منابعهم، أو التشويش أو تشويه فكرتهم، بعيداً عن كل هؤلاء، لابد من النظر إلى شريحة أخرى باعت وهماً للناس، عبر مشاريع شكلية، كان همها من خلالها تجميد طاقاتهم وفكرهم، وتجنيدهم ضمن أهدافها الخاصة، لتجعلهم أفراداً منعزلين منهكين لا همّ لهم سوى إنجاز قوائم الأعمال المترتبة عليهم، ضمن مشاريع سطحية تدعو لاستهلاك المال بأية طرق ممكنة، ولا تدعو لتوجيهه فيما ينفع الناس ويبقى في الأرض، تلك الحالة التي استهلكت شريحة كبيرة من الناس والطاقات والعقول الفاعلة والتي لم يعد لها همّ سوى إنجاز أعمالها وتحقيق نجاحات وهمية، لقد نجحوا فعلاً خلال السنوات التي مضت، نجحوا وباعوا، واشترى الناس وهماً!

لابد أن ننظر بعين الإنصاف إلى حجم ما فقدنا، وحجم الهدر الإنساني والفكري الذي حصل، لقد كان الناس أحياناً أمام خيارين، إما الموت جوعاً وذلاً، أو القبول بالعمل ضمن مشاريع وإن كانت نسبة الإيمان بها وبأهدافها ضعيفة أو معدومة، بل كان كثير من الناس أصحاب الهم يعانون لإيجاد سلسلة من القيم يؤمنون بها ويعملون عليها في مشاريعهم، بدلاً من أن ينضموا وقد جذبتهم تلك القيم ولفتت انتباههم، تلك مأساة حصلت وتحصل حتى اليوم.

أضف إلى ذلك شريحة أخرى باتت تفتش عن خيط أمل أو انتصار مهما كان ضئيلاً، لتشعر أنها مازالت قادرة على الإنجاز، أو بالأحرى لتشعر أنها على قيد الحياة، وذلك نتيجة اليأس والإحباط وتكرار التجارب الفاشلة، وكلما تعمق شعور اليأس أكثر، بات التمسك بخيوط الأوهام أكبر، فصناعة الأوهام لا يتطلب جهداً ولا وقتاً كما تتطلبه الإنجازات الحقيقية.

لقد باتت حالة التفاخر والتباهي بالوهم سائدة في الاجتماعات واللقاءات الموسعة والمصغرة على حد سواء، وحيث لا أحد هنا أو هناك قادر أو متفرغ لتقييم تجارب الناس الحقيقية، فمساحة خداع الذات مفتوحة على مصراعيها في النفوس، فنجد أحدهم يقول وهو المنعزل عن تجارب الآخرين ” لم تشهد سورية بأسرها مشروعاً ناجحاً كمشروعي، ولا تجربة ناجحة كتجربتي في الثورة، ولم تثُر مدينة أو تقدم شيئاً كما فعلت مدينتي”! ونجد الأمر يتجاوز الحدود المعقولة فيتحول للتباهي بالجراح والتفاخر بها، حيث تُفتح أحاديث الفخر بمن قُصِف أكثر، ومن تعرض لجرعة أكبر من الكيماوي، ومن كانت عدد أيام أو شهور حصاراته أكبر، وكأن الأمر انتصار من انتصارات كثيرة وليس محنة وشِدّة وألماً.

ويقترن مع حالة التباهي تلك، مرحلة الوهم بتحقيق السعادة، فبمجرد الحصول على بعض الجرعات المادية، يغدو التقليد الأعمى سيد الموقف، وحين نذكر أن التباهي بصورة حمل السلاح منتشراً في بدايات الثورة على مواقع التواصل الاجتماعي، بات الميل حالياً للتباهي بأشياء أخرى لا حصر لها كصور الطعام أو المشتريات، أو التباهي بالقراءة والثقافة وصفحات الكتب المقروءة أو أعدداها عند فئة أخرى، أو صور أمام معالم المدن الأوروبية، أو صور الإنجازات الصغيرة، مع كثير من التهويل والتضخيم وكأنها جوهر الحياة، كصور الرحلات أو اللقطات مع المشاهير، وهذه بالطبع حرية شخصية، لكن السؤال يتردد بعمق، هل وجد هؤلاء سعادتهم الحقيقية الآن؟ ماذا عن الانتصارات الحقيقية والأثر المطلوب في بناء العقل والنفس والفكر والأرض والناس والوطن والأمة؟ هل قبلنا بأن نستجيب لباعة الوهم، أم قاومنا وصنعنا الفرق؟

تتشابك خيوط الوهم لتشكل شبكة مرعبة كشبكة العنكبوت، تُشعر بالخدر، وتشل الحركة، وتعمل على أن تستمر حالة الشلل هذه أطول مدة ممكنة، ليستطيع الجميع تنفيذ مطامعه من خلال استغلال الإنسان بكل وسيلة ممكنة، يبقى الأهم هو استعادة الذات وتمزيق كل خيوط الوهم، والعودة إلى الهدف الأسمى، من الثورة، ومن الحياة أيضاً.

المصـــدر

المزيد
من المقالات