إذا كان الدمار الذي سببه الأسد ونظامه وحلفاؤه في المدن والقرى يتطلب ربع قرن لإعادة إعماره، فالدمار الذي أحدثه في النفوس قد يتطلب أكثر من ذلك بكثير، فالأمر لم يتوقف على المآسي والأحزان التي أحدثتها جرائمه، بل تعدى ذلك إلى مشكلات أكثر عمقاً وضرراً على المدى القريب والبعيد، مشكلات تتعلق بالتفكير والقيم والسّلوك، ولعل أهم ما بات واضحاً بين السوريين، ذلك الشرخ الواسع من الاختلافات وعقد الكراهية وهواجس المؤامرات والفتنة، حيث عمل على المدى البعيد ومن خلال عقود مضت على تحويل المجتمع السوري من مجتمع مترابط متراحم متماسك، إلى مجتمع مدمَّر مفكك، يشعر الإنسان فيه بالقلق المستمر وانعدام الأمان، كما يشعر بغياب الثقة في تعامله مع الناس.
وإذا كان السوري الحر على أرضه أو خارجها يحاول أن يفكر كيف يتعايش مع حالات الفقد التي باتت في كل بيت، فإنه من ناحية أخرى يتقلب في أفكار أكثر ملامسة لحياته، ألا وهي كيف يتابع حياته، ويخدم قضيته بالشكل الصائب وقد باتت حالة الفرقة والشتات أمراً واقعاً لا مهرب منه، وأكثر من ذلك صعوبة، كيف يتخذ القرار الصائب ويسلك الدرب الصحيح في حالة انعدام الثقة وتصدر الشقاق للمشهد ككل، فإن من خداع الذات والآخرين وضع اللائمة على النظام وحده في ذلك، فالحقيقة تقول إن أكبر أسباب الخلل كانت نابعة من الطرف الثوري أو المحسوب على الثورة، أو المساعد لها بشكل أو بآخر، الخلل بدا في مراحل كثيرة في المظاهرات، ثم على جبهات القتال، تماماً كما بدا في آلية عمل منظمات وجمعيات ومؤسسات كان من المفروض أن تصب جميعها لخدمة الثورة وأهلها ولتفعيل دورها، لكنها فعلت العكس، فلم يكن شرخاً واحداً للثقة قد تشكل بل شروخ.
إن غياب الحكمة في التصرف والعمل وإقصاء الناس عن الإلمام بقضاياهم والمشاركة فيها، وتسلم الأمر لمن ليس كفؤاً، وغلبة روح التعصب والميل لأفكار ومشاريع وأحزاب على حساب الكفاءة والأحقية والإنصاف والعدل شكل فجوة ضخمة يصعب ردمها.
وإن تعزيز قناعة بأننا يجب أن نتابع بأهداف مختلفة لأننا لن نتفق، سبب كارثة في التنسيق والترابط وتدعيم الثورة وتكريم الشعب، فمنذ أن حُذفت كلمة ثورة كأساس للأعمال والمهام والمواقف والمنطلقات، باتت عناوين أخرى تتصدر الساحة وتشتت وتبعد عن الهدف، ولم يعد أحد يعي إلى أين الوجهة الصائبة فباتت الفرقة سيدة الموقف.
لقد رُوجت في بدايات الثورة فكرة أن السوري يبدع وحده لكنه فاشل في العمل الجماعي، تم الترويج للفكرة كأمر مسلّم به، ولا مجال لتعديله كسلوك فردي أو جماعي، وعلى أساسه تعمقت حالة المبدع الفردي النرجسي الذي لا يستطيع الاتفاق أو العمل مع غيره وإن كان المتفق عليه أكثر بكثير من نقاط الاختلاف، فلا مجال للمتابعة، ليس لأن ذلك غير ممكن، بل لأن أحداً لا يريد أن يختصر المسافة ويطوي الطريق ويقدّم مصلحة الثورة والناس على أفكاره وهواجسه، مما أوصلنا إلى حالة تقديم التبعية للمنظمة والجمعية والفصيل على المصلحة العامة، ولأجل ذلك تجري حروب واقتتالات قد لا تكون بالسلاح بالضرورة، فهناك وسائل أخرى لها أضرار لا تقل تأثيراً عن اقتتالات السلاح وتؤدي إليها بشكل أو بآخر.
لقد أدى تحييد أصحاب الكفاءة والضمير أنفسهم خشية التلوث في أجواء مشحونة، أو إقصاؤهم من قبل آخرين خشية أن يسودوا أو يتسلموا مناصب أعلى، أدى إلى نتائج كارثية في الأداء والنتائج، إضافة إلى غياب المحاسبة والرقابة والتقييم الموضوعي في الثورة أدى لانتشار الفوضى والفساد، واليوم نشهد أن الأغلبية يعملون ضمن نظام الرقابة الذاتية أو الرقابة الشكلية، وحين نود أن نقدم تقييماً واضحاً، ونحاول تلمس الأثر والإنجاز تظهر لنا تماماً حقيقة التآكل الداخلي في المؤسسات، وحاجتها الشديدة إلى إعادة الهدم والبناء الصحيح.
وإذا تساءلنا ما الذي يمكن أن نفعله أو نقدمه في هذه المرحلة تحديداً، سنجد أن العودة إلى الاجتماع أو التنسيق أو محاولة إيجاد سُبل توافق بات فرضاً يتعين على كل حر أن يسعى إليه ويعمل لأجله، وإن حالة الشلل الحاصلة والتي يهيمن عليها لوم الآخرين والتنصل من المسؤولية لابد أن تتوقف، ويحل محلها مبادرات صادقة واعية، قد يكون فيها شيء من الأجواء المتوترة أو المشحونة أحياناً، لكن إن اجتمع فيها الصدق وحب القضية من جميع الأطراف فلابد أن تفضي إلى نتيجة.
لابد من مراجعة ذاتية ومراجعة عامة واعية يقيّم فيها كل فرد دوره، وماذا قدم، وهل كان يسعى بالمسار الصحيح وبالطريقة والأسلوب الصحيحين، وما هي التغييرات أو التعديلات اللازم تحقيقها لتقديم الأفضل، لابد ضمن ذلك كله من تواضع وتقبل للنقد، وتقديم الأكفأ والأجدر بل ودعمه وتقديم كل ما يمكن من إمكانات ووسائل ليحقق نتيجة أفضل، كل ذلك لا يعتبر عملاً متكاملاً بل خطة طوارئ عاجلة يحتاجها الواقع بإلحاح.
لابد من جرأة يحركها الإيمان والحب والرغبة في تغيير حالة الهوان والشتات إلى استعادة للمجد والكرامة والعزة، تتحول هذه الجرأة لإعادة بناء متكامل يبدأ من بناء الثقة بالنفس وما تملك، والثقة بالآخر الصادق الأمين وإن كانت هناك اختلافات فذلك من طبيعة البشر، وأخيراً ثقة بالثورة كقضية لها أحقية وأهمية وأولوية، ثقة بالشعب وأن ما يغرس معه ولأجله لابد سيثمر بإذن الله.