ليس غريباً أن يتفجّر الإبداع في الثورة، فلم يعش شعب بمثل التعتيم والتضييق والظلامية التي عاشها الشعب السوري، ولم ينل أحد من كبت الحرّيّات ومطاردتها ومحاولة قتلها مثل ما ناله هذا الشعب العظيم، ولذلك فقد استجاب مع أول صرخة حرّيّة، ملقياً كل القيود التي كانت تمنعه من الانطلاق، وفي اللحظة التي شعر فيها بأنه مسؤول عن كلمته وموقفه، وبأن لا شيء يمكن أن يحول بينه وبين ما يؤمن به، ولا شيء أمامه ليخسره، أطلق فكره وطاقاته وجندها بكل إخلاص خدمة للثورة وأهلها، والأمثلة على هذا كثيرة، بدأت بأشكال التظاهر السّلمي التي ابتكرها وطوّرها المتظاهرون، وانتقلت إلى عدسات المصوّرين المبدعين، الذين تفوقوا على أنفسهم وواقعهم في نشر الثورة فكرة وقضية، ولا تغيب عن أنظارنا عدسة شاب دمشقي، وعدسة شاب حمصي، والتي جسدت جمال الثورة وقوتها في أروع صورة، والتي تواترت بعدها لتنتقل للمدن والبلدات، يتنافس المصورون بعدسات مختلفة، وتطلعات موحدة، تجاه قضية واحدة، خدمتها حتى العدسة الساخرة ” عدسة شاب تافه” والتي كانت من العمق بمكانٍ تحمل المغزى بعبقرية البساطة، وتوصل القضية وتدافع عن الحق لغير لسان.
لا يخفى أيضاً عن ذاكرتنا نحن السوريين إبداع آخر، تجسّد في كل عمل يخدم الثورة وأهلها، ابتداء من الطب، المهمة الأصعب، والتي كانت تتطلب من الأطباء أن يتمتعوا بعقلية الابتكار والإبداع في أصعب الظروف، من نقل الدم إلى إجراء العمليات، إلى إيجاد بدائل طبية وإسعافية ودوائية للمرضى، كلها مثيرة للدهشة وفي ظروف يعتقد المتأمل لها أن الحياة ضمنها مستحيلة، وعن إبداع الثوار في حفر الأنفاق قصص وحكايات لا تنتهي، فالطرقات والممرات المدهشة التي شقّت تحت الأرض تخبر عن إرادة صلبة تتفوق على أي إرادة، وإن عُرف بأن كل هذا الجهد العضلي، وهذا الإتقان اللافت الذكي تم في ظروف حصار وتضييق فالدهشة أكبر، ولننظر أيضاً إلى الجهود الكبرى في إبداع طرق ووسائل لتعليم الأطفال وإنقاذهم من الضياع والتجهيل، يمكننا أن نستنتج مدى رغبة الإنسان الحر في خلق حياة ليست كالحياة، فاجتماع الحرية والحياة يهبها القيمة الحقيقية، والقدرة على الانطلاق مهما صعبت الظروف، وكل ما جرى ويجري ما هو إلا إثبات على أحقية هذا الشعب بالحرية وقدرته على الإنتاج والتميز.
وإذا تساءلنا اليوم ما الذي جرى لإبداع الثوار ولماذا خفت وجوده وتأثيره، يمكننا أن نكتشف لذلك أسباباً كثيرة، فالضغوط الخانقة التي تعرض لها المبدعون في سورية جعلت اليأس يداهمهم، ويضعهم بحالة من السلبية، والأسلوب البيروقراطي الذي عومل به المبدعون على مدى السنوات الماضية ممن تسلموا شؤونهم عبر مؤسسات وإدارات، سبب لهم غياب الدافع، وقتل الحافز للاستمرار، والتهديد بهدم كل الجهود في لحظة قصف أو قرار تهجير، جعل الخوف سيد الموقف، وعندما يستوطن الخوف يرحل الإبداع وتسيطر الانهزامية.
لقد عانت الثورة من مشكلات كثيرة أضعفتها وأوصلتها إلى حالتها الراهنة بعد أن مرّت بمراحل تألق وقوة كثيرة، ومن أهمها التكتل والتركيز على التشابه الفكري بين العاملين فيها بمختلف مجالاتهم، ذلك الذي أدى لغياب التنوع الفعال الذي كان بالإمكان أن يؤدي لإنتاج أفكار جديدة خلاقة وفاعلة، فالاقتصار على أشخاص متشابهين بالأفكار والتعصب لهم ولما يحملونه من أفكار، ونبذ المختلفين عنهم نشر حالة من القهر وأدى لميل كثيرين للعزلة والانسحاب، والتمييز الذي حصل ويحصل في مجتمع الثورة أحبط كثيرين وجمّد أهدافهم وتفكيرهم، ومال كثيرون لحالة اللامبالاة بشيء، فقُتلت الدافعية وانحسر الإبداع.
يظن كثيرون أن الحديث عن الإبداع في هذه المرحلة العصيبة ترفاً، بعد حملات التهجير الرهيبة التي مرّ بها السوريون، وضمن المرحلة التي تُهدد فيها إدلب رُوح الثورة بالهجوم، ويحشد لفتح معركة فيها، وفي المرحلة التي تمتلئ أرض المحرر بالمخيمات، ويعاني أطفال سورية من الفقر والتشرد والجهل، فيما يعاني الكبار من البطالة والقلق وتتكالب عليهم شتى الضغوط، فيما يعاني السوريون في مناطق النظام من تهديد دائم بالاعتقال أو التجنيد الإلزامي، ومحاولات لا تتوقف عن فرض السيطرة بالقهر والإذلال اليومي.
مرحلة تكاد تكون الأصعب والأكثر قتامةً وبؤساً، ولكن في هذه المرحلة تحديداً تغدو الحاجة للإبداع ضرورة مُلحّة، فابتكار الوسائل والأدوات اللازمة للمواجهة، ودفع الأحرار للتفكير وإيجاد سُبل كفاحٍ ومقاومةٍ جديدة لن يكون إلا بتفهم معاناتهم، والإيمان بكفاءاتهم، ووضع الأشخاص المناسبين في الأماكن المناسبة، وتسخير كل الأدوات والطاقات الممكنة ليبدؤوا العمل من جديد بروح مختلفة، لابد من الاستفادة من الخبرات، والابتعاد عن ثقافة التمييز والتعصب والإقصاء، وبعث روح الحماس في نفوسهم من جديد ليقدموا الأفضل.
الثورة منجم طاقات إبداعية هائلة، تفوقت على النظام بأفكار لم ولن تستطيع عقلية البعث الصارمة والمحدودة أن تصل إليها، ما ينقصنا عندما لا نمتلك القوة أن نصنعها بذكاء، وأن نؤمن بما نملك، وأن لا نمل أبداً.. أبداً من التعلم بتواضع الثائر وإيمانه الحقيقي بقضيته.