الشهداء في ذاكرة الثورة

نوفمبر 29, 2022

إيمان محمد

مقالات

تُكتب لحظة الخلود للإنسان بانتهاء حياته، لا أحد يستطيع فهم ذلك المعنى لامتداد الحياة عبر الموت، وسبب كونه بداية حياة بشكل مختلفة أكثر من الشهداء.

القدوم للحياة إعلان بداية الرحلة، والحياة كلها رحلة سفرٍ مليئة بالأحداث التي تصنع الإنسان حين يصنعها، والموت هو اللحظة الفارقة التي تخبر عن القيمة الحقيقية للحياة، وإلا فما الفرق بين حياة وحياة؟!

ما الفرق بين الموت العادي المثالي الذي يرحل فيه الإنسان في ظروف مثالية على فراشه وبين أهله وأحبابه وبين موت معتقلٍ تحت التعذيب وحيداً في زنزانة، مُبعداً متألماً،

أو موت مقاتلٍ في معركة، وهو يصدّ هجوماً مباغتاً، أو يعلن هجوماً ليوقف الإجرام والظلم عن الضعفاء، أو يموت فجأة بنوبة قلبية، يموت قهراً وهو يحاول أن يفعل شيئاً ما ليوقف استلاب الإنسانية واستعباد البشر.

 ما قيمةُ موت محاصرٍ جائع قرر أن يتصالح مع جوعه في أرضه، ولا يشبع في أرض تمتهن فيها كرامته، قرر أن يدفن موسداً بكرامته، وأن يغطيه تراب الأرض وإن قصفوا المقبرة بعد دفنه، كل تلك الأحداث تصنع الفرق بين موت وموت، بين رحيل أصحاب القضية وذلك الأثر العميق الذي يتركونه في النفوس، ورحيل ثلة من الأشخاص غير المبالين الذين يعيشون لأنفسهم فقط، لا لأمتهم ولا ليتركوا بصمة من أجل قضية سامية.

ما الذي يبقى في ذاكرة الإنسانية أكثر عمقاً من هذه المشاهد المؤلمة في ظاهرها، المترسخة في العقول تحمل نبل قضيتها سوى الفكرة، فكرة الرحيل من أجل البقاء للآخرين، فكرة احتمال الألم لينجو البقية؟  تبقى تلك المشاهد عبر السنين بتفاصيلها في ذاكرة الشعوب، لا تضحية تشبه أخرى، لا موت يتساوى بموت، ولا حياة بأخرى، والذي يبقى حقاً ذلك الدرس الذي يتركه الإنسان لأخيه الإنسان قبل أن يودعه إلى حياة أخرى، فما بالك بشعب يكتب درس الخلود بدمه وتضحياته التي لا تنضب!

 يبقى شعور الألم أكثر ما يترك بصمته وذلك الشرخ المتروك في ذاكرة كل من يشهد ويراقب مما يجعله دائم التفكير في مغزى ما حصل، مما يدفع للتأمل في معنى العدالة وسبل تحقيقها مهما كان ثمن ذلك باهظاً.

معظم الشهداء الذين يتناقل الناس صورهم عبر سنوات الثورة كانوا مبتسمين، مكللين بالورود، ملامحهم هادئة كملامح وجه محارب استراح أخيراً بعد أن وصل لغايته.

كان التشييع زفاف معلن لا يجرؤ النظام على إيقافه ولا سيما أنه يزف قهر الشعب وغضبه مع الشهيد، ومع زغاريد الأمهات التي هي إعلان فرح، كانت قيمة الموت تتعمق أكثر تترجمه بأنه حياة حقة، وقد قدمت لرفع الظلم وتحقيقاً للحق.

ثم باتت الصور تبدو أكثر ألماً، أكثر واقعية ربما، صور الأشلاء والوجوه المقطعة المثخنة بالدم والجراح، صور المجازر كانت هي الأكثر إيلاماً وفظاعة، غير أن الأيدي التي كانت تعلن الوداع الأخير لهؤلاء، أو تهيئهم للوداع الأخير كانت تقاتل لأجل أن يرحلوا بأجمل صورة ممكنة.

الأطفال الذين كفنوا بما توفر من قماش، وعُصبت رؤوسهم الصغيرة بشرائط الساتان، الهدوء الرهيب الذي ترك بصمته من خلال وجوههم البريئة التي رحلت إلى عالمٍ أفضل، أكثر أماناً، لا سكاكين تمتد فيه إلى رقابهم، لا قذائف تهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، ولا غازات سامة يتنشقوها، مشاهد يستحيل ألا تخلد في ذاكرة كل إنسان حر، ويستحيل ألا تخلد في ذاكرة التاريخ الذي يشهد ويسجل بصمت ما يحدث.

معظم الأشخاص الذين قابلتهم في الشوارع والملاجئ وتحت القصف خلال الثورة، لم يكونوا يأبهون بفكرة الموت، كانوا يعتبرونه سبيلاً للراحة الأبدية،

كانت مخاوفهم تنصب على إمكانية أن يصابوا بإعاقة ما تمنعهم عن مواصلة الحياة، الحياة تعني بالنسبة إليهم أن يساعدوا من حولهم، كانوا رجلاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، الجميع كان هاجسه ألا يتوقف، وألا يتحول من إنسان له وجود مؤثر إلى عالة، وكأن الكرامة هي الهاجس الدائم، ” كرامتنا لا تسمح لنا بأن نكون عبئاً على أحد”!

الموت لم يكن يوماً هدفاً لشعب أحب الحياة وأسهم فيها بما يملك من خير وأمل، لكن هذا الشعب ظل مدركاً أن الموت وسيلة لخلق حياة جديدة، ولأجلها لابد من عبور طريق مليء بالآلام.

حتى اللحظة تبقى صور الشهداء إرث الثورة، ويبقى الشهداء وقودها المستمر، يبقى الشهيد هو الفكرة الراسخة التي لا مساومة عليها والتي لا يمكن نسخها أو حذفها أو إزالتها بأي سلاح ممكن.

وعلى درب الحرية يغدو الثمن غالياً جداً، لكن لا سبيل سوى السداد.

المصـــدر

المزيد
من المقالات