سأبدأ رحلتي من بعيد. أرجو أن يتسع صدركم، ووقتكم.
بدأت الحكاية منذ صدر الإسلام حين اجتمع الصحابة لاختيار خليفةٍ للنبي (ص) بعد وفاته، واتفقوا أن يكون “أبو بكر”. لكن آل بيت النبي اعترضوا على آلية الاستخلاف التي حصلت دون أن يُعلِمهم أحد. ورأوا أن “عليّاً” أحقُّ بالخلافة من أبي بكر.
في ذلك الوقت كان “عمر بن الخطاب” قوياً شديداً، منع الناس من الخوض في الموضوع قائلاً: “الفتنة نائمه، لعن الله من أيقظها”. لكن إكراه الفتنة على النوم لم يزدها إلا غلياناً في الصدور. وربما لو أتيحت فرصةٌ للحوار، لأمكن تجنّب حروب عديده ذهب ضحيتها الآلاف، بين علي من جهة، وعائشة ثم معاوية من جهةٍ أخرى.
كان كل فريق يحاول استمالة أكبر عدد من الموالين، باستخدام النصوص المقدّسة.
اعتبر الشيعة أن آل البيت معصومون، بدليل نصّ حديثٍ منسوبٍ للنبي (ص): “تركت فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي”. بالتالي فـما يقوله آل البيت “المقدّسون”، أو يُنسب لهم بصنعةٍ جيده، مُقدّس. متناسين أن القرآن الكريم خصّص سورةً كاملةً لذمّ عمّ رسول الله والحمل عليه وعلى زوجته.
لم يكن الفريق الآخر أفضل حالاً، إذ جعل جميع الصحابة عدول (أي أن ما يروونه عن النبي (ص) صحيحٌ بالضرورة)، والصحابي عندهم كل مسلم رأى رسول الله ولو لمرةٍ واحدة. متناسين أيضاً الآية القرآنية المنافية لذلك التوصيف في سورة التوبة: “وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة، مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم. سنعذبهم مرتين ثم يُردّون إلى عذاب عظيم”.
أصبح بعد ذلك، العمل بالنصوص واختلاقها أو تفسيرها لما يخدم المعتقدات والأفكار، حرفةً زادت الكُره بين الفريقين، فمعاوية بن أبي سفيان كافر ملعون عند الشيعة، لكنه سيّدنا الصحابي الجليل عند السنّة.
وسط كل تلك الفوضى، تلمّس بعض علماء المسلمين المشكلة، وحاولوا إيجاد قواعد تساعد في فحص الرواية والتاريخ لمعرفة الصحيح من المُعتل. فظهرت علوم الجرح والتعديل، وبُذلت جهودٌ كبيرةٌ لحصر الأحاديث الصحيحة، ولكن تقديس الرجال، بقي عائقاً خطيراً لم يستطع أي من الفريقين تجاوزه. بالإضافة لأثر تداخل السياسة في صناعة الأحاديث المقدّسة التي تُمرر وتُشرّع رغبات السلطان. وحتى محاولات بعض المستشرقين -وليس جميعهم- لتطبيق قواعد ضابطه تستخلص الحقيقي من تاريخنا، واجهها فكر المؤامرة؛ الذي اتهم وقذف كل من يخرج عن السائد.
بمرور السنين. أصبح التلاعب بالتاريخ، والتزوير، وتبنّي الروايات التي تخدم المسطّر في عقولنا، عادةً.
يكره بعضنا “أنور السادات” فيختلقون أدلّةً تثبت أنه عميل، وإن جدّته كانت يهودية.
يريد القوميون أن يقنعوك بأهمية العروبة، فيجعلون السبب الوحيد لدمار الخلافة الإسلامية، المؤامرة الأزلية ضد العرب.
أما دولة الطغيان، فاستخدمت التاريخ أداةً لتشكيل آراء الرعيّة، حتى بدا الأمر مضحكاً أحياناً. تتقارب دولة الأسد مع تركيا فيتم تعديل مناهج التاريخ في المدارس لتهميش قضية لواء إسكندرون. ثم تحدث الشُقّة مع الأتراك؛ ليتغير التاريخ ثانيةً، ويصبح لواء إسكندرون المُغتصب، قضية المناهج المدرسيّة. بل إن الأمر وصل أحياناً إلى إدخال تعديلاتٍ على الخريطة الجغرافية لما يناسب بعض التوجهات والتفاهمات.
من أجل ترسيخ التزوير وإخفاء الحقائق، تم استخدام الإعلام لإيصال رسائل “الأخ الأكبر”. وعوضاً عن أن تكون الصورة وسيلةً إضافيةً لإيصال الحقيقة إلى المُتلقي. تم تدجين تلك التكنولوجيا لخدمة مؤسسة الحكم.
لكن انتشار البث الفضائي وظهور قنوات التزَمَت الدقّة والموضوعية، كشف السَوءة الإعلامية لأنظمة الطغيان، فحاربت تلك القنوات واتهمتها مستخدمةً أساليب شتى، ومستثمرةً الشيوخ المُقدّسين. وما زلت أذكر إحدى خطب الشيخ الراحل “سعيد البوطي” التي خصصها لتخوين قناة الجزيرة، لأنها تقابل سياسيين وصحفيين صهاينة. يومها قال “البوطي”: “أخبرني من أثق، أن تمويل قناة الجزيرة صهيوني”. ستمر كثير من السنوات قبل أن نعلم أن الثقة عند “البوطي” هم ضباط استخبارات الأسد، الذين لم يرُقْهم إنشاء قناةٍ إعلاميةٍ حقيقيه، يمكنها أن تُعنى بالتوثيق والحياد وسماع الرأي الآخر. فالرأي الآخر في دول الاستبداد، يمكن أن يرتقي إلى ثورة. وقد ارتقى بالفعل.
لقد قامت ثورات الربيع العربي لتنهي الاستبداد، وتُرسي قيم الحرية؛ وتقضي على التقديس. فتتناقح الأفكار، وتتقارب وجهات النظر المبنيّة على الصحيح من الأخبار والروايات.
ولكن الاعتقاد أن مجرد إسقاط استبداد أو طاغيه، ينهي المشكلة بعصا سحريه، كان اعتقاداً حالماً. فتغيير الطباع والعادات يحتاج إلى وقت.
بدأ ذلك جليّاً منذ الأيام الأولى للثورات، وكان من الممكن قراءته في العديد من التفاصيل، كالإعلام نفسه.
قابلت النظم المستبدة الثورات التي تم نقلها على الهواء مباشرة في بعض القنوات، بالإنكار. وزعمت قنواتهم الإعلامية أن بعض الدول هي من انتجت المظاهرات العربية في استديوهات خارجية و “ماكيتات” تم إنشاؤها لمشابهة مناطق وساحات بعينها، أما المتظاهرون فاتُهِموا بالتآمر لقاء خمسمائة ليره عن المظاهرة، كانت توضع لهم في “سندويشة فلافل”. وكل ذلك متوقع.
إلا أن استراتيجية القنوات الداعمة للثورات اتسمت برد الفعل المعاكس! فجرى تضخيم الأمور أحياناً، وأصبحت وظيفة مراسل صحفي، مهنة الجميع. يمكن لأي شاب صغير يتقن الخطابة أن يمسك مايكروفون ويضخّم الحدث كما يشاء، دون أي التزام بضوابط التثبّت من الخبر وصحته، ووَقَعت قنوات رائدةٌ في أخطاء مهنية خطيرة، كالجزيرة نفسها.
مع الوقت، انزلقت قنوات الثورة للإعلان أو الدعاية والتسويق، أكثر من الإعلام، بدعوى أنه لا بد من التصدّي لإعلام النظام الكاذب بإعلام مضاد، ففقد المشاهد أهم وسيلة للتوثيق ومعرفة الحقائق. ومازال الكثيرون يتساءلون عما جرى في حلب وأدى إلى سقوطها، وما جرى قبل ذلك في حمص، أو بعد ذلك في الغوطة وغيرهما.
نحن نفتقد لتحقيق صحفي يخبرنا عن هوية أبي محمد الجولاني، الذي اتحفنا برؤية وجهه دون أن نتمكن من معرفة قريته أو مدينته، ودون أن نتمكن من الاقتراب لظروف نشأته.
أما نتائج ذلك، فزيادة خندقةٍ وجدالٍ واقتتال بين شبابنا بسبب ضيق زاوية الرؤية.
لقد كان للإعلام عالمياً الفضل الأول في إيصال الحقائق وكشف الخفايا، فهو الذي اكتشف فضيحة “ووترغيت” و”الكونترا” وغيرهما. وهو الذي يشكل الرأي العام ويخترق مؤسسات الفساد، وشخصياته. وهو السلطة الرابعة التي يجب أن تقف في وجه محاولات التزوير والخداع والكذب.
نتفهم ظروف قنواتنا الثورية، ولكننا ندعوهم لتفعيل التحقيقات الصحفية، ووضع مواثيق شرف مهنيه تضبط عملهم كي تصل الحقيقة إلى المتلقّي. فتوثيق ما يجري وكشف حقائقه، عمل ثوري، يمكنه أن يغيّر الطبائع والعادات، وأن يكون لبنةً أولى لمشروع إعادة دراسة تاريخنا بأسلوب علمي، فذلك من شأنه حل معضلةٍ استمرت الدولة العضوض في ترسيخها لأكثر من ألف سنة.