ما حصل مع قوافل مهجري ريف حمص الشمالي وجنوب دمشق على معبر أبو الزندين قرب مدينة الباب، ينبغي أن يكون علامة فارقة لدى النشطاء السوريين وقوى الثورة والمعارضة، في فهمنا لطبيعة المناطق المتبقية، وفي مراجعة شكل العلاقة مع الدول، وفي مشروع الثورة للمرحلة القادمة.
تم طرح حجج وتبريرات عدة لمنع دخول القوافل، من عدم وجود تجهيزات كافية في المنطقة، إلى وجود عناصر من داعش والنصرة فيها، أو عدم التنسيق الكافي… الخ.
التفاهمات التركية الروسية رسمت حدود مناطق النفوذ، وكانت سبباً رئيساً في سلسلة تهجير المناطق التي تسارعت منذ الغوطة الشرقية، ولن يعجز الطرفان عن التنسيق حول قوافل المهجرين، بعدما نسقوا حول وضع هذه المناطق ومصيرها منذ بداية الأستانة، وتم خداع الناس بأكذوبة الضامنين ومناطق خفض التصعيد، التي استغلها كل طرف لتوجيه المعارك نحو أولوياته، وفي تحييد مناطق وفصائل وسلاح إلى حين.
ما حصل أمس قد أرسل رسالة واضحة حول القوة المهيمنة في المنطقة، وتم إهانة القوى السورية الموجودة هناك، وأن خيارها الوحيد أن تبقى دون قرار، وهو إذلال لكل السوريين في الحقيقة، الذين تقصفهم وتهجّرهم قوة أجنبية ليحتلّ أرضهم قوة أجنبية أخرى ثم يحتاجون ختم دخول من قوة أجنبية ثالثة لأجل العبور من أرضهم نحو أرضهم، حتى لو كان لأجل الوصول إلى خيم فوق الوحل.
كان هناك تقاطع مصالح كبير مع الجانب التركي لا شك، والوجود التركي في منطقة ريف حلب الشمالي والشرقي بعد عملية درع الفرات قد ضمن حماية هذه المنطقة من قصف الطيران ومن حملات مشابهة للغوطة، ومن مصلحة أهالي المنطقة وفصائلها استمرار هذا التحالف، ولكن السياسة التركية في الشمال السوري، والقوى التي اعتمدت عليها وبعضها فاسد بوضوح تام، وتفاقم أخطاء وتجاوزات بلا معالجة، بدءاً من قنص السوريين الذين يعبرون الحدود برصاص الجندرما (حتى الآن لا يوجد إحصائية دقيقة ولكن يقدر العدد بعدة مئات من الشهداء)، إلى اقتحام مظاهرات أهالي مدينة الباب، وصولاً إلى مجمل الملف التنظيمي والإداري في المنطقة، دون أن ننسى اللعب الخطر على مسألة الهوية في ملف التعليم وفي ظهور استقطاب عربي تركماني هناك … الخ.
إن كل هذا يستوجب مراجعة ملف الريف الشمالي، وترسيم علاقة جديدة صحية مع الجانب التركي، تمنع من أن يتحول تراكم المشاكل والاحتقان نحو تأزم وصدام أكبر وحقيقي، وهذا لا يمكن علاجه عبر سياسة الانبطاح والصمت واسترضاء الآخر، وإنما بالمكاشفة والنقد الواضح والانطلاق من أولوياتنا كما ينطلق الطرف التركي من أولوياته، وعدم استسهال التلاعب بهوية المنطقة وانتماء الجيل القادم.
لا شك أن المنطقة تخضع لتفاهمات الوصاية والنفوذ، وأن تركيا شكلت منظومة إدارية متكاملة تابعة لها في المنطقة، رغم أن هذه المنظومة لم تقدم الخدمات للمنطقة بالمستوى الذي كان متوقعاً، خاصة مع التضييق على عمل المنظمات المدنية والجهات المحلية، وهذا ما أدى إلى تراكم احتقان مسكوت عنه، وسلسلة صدامات ما بين القوى الثورية المحلية التقليدية في المنطقة، وما بين قوى أقرب إلى الرؤية التركية وربما شكلتها تركيا، بغرض إلحاق الجميع ضمن المنظومة.
في الريف الشمالي كما في غيره، تبقى هناك جهات مدنية وعسكرية وأهلية، تحاول الوصول إلى أفضل صيغة من الحلول للمنطقة وضمان استقرارها، من داخل المؤسسات والفصائل الموجودة أو بمبادراتها الخاصة، ومن الظلم التعميم على قوى المنطقة بدعاية التشويه أو التبعية أو الفساد التي يتبناها إعلام النظام وجبهة النصرة ضدهم، في الباب ومارع واعزاز وجرابلس وغيرها هناك مجتمع كبير من نشطاء ومقاتلين ومثقفين ومهجرين ونازحين من معظم المدن السورية، وهناك بنية مؤسسية شبه متكاملة، وبإمكانهم أن يمثلوا نواة نهضة للمنطقة، ونموذجاً للمناطق المحررة، ومجتمعاً سورياً مصغراً، لو تم تصحيح هذا المسار المشوه من الحالة الفصائلية والعلاقة غير الواضحة مع الجانب التركي.
ورغم حالة التفاوت بين الفصائل من حيث النزاهة أو الثورية أو الاستقلالية، فإنها أضحت جزءاً من تثبيت منظومة التفاهمات الإقليمية والدولية وليس تغييرها، هذا واضح في حالة ريف حلب الشمالي ويصدق على فصائل إدلب ودرعا بدرجة أقلّ أيضاً، وهو ما يجعل تجديد العمل الثوري والمسلح يحتاج إلى إبداع أدوات جديدة، دون التخلي عن هدف بناء قوة عسكرية منظمة للثورة في أي منطقة من خلال هذه الفصائل، ولا قبول الفصائل تحولها إلى أذرع تابعة كلياً للإرادات الدولية، هذا لم يعد تحالفاً وقتها.
ما يصحّ على الفصائل يصحّ على المعارضة السياسية، التي تحول قسم كبير منها إلى أدوات لتمرير تفاهمات الدول، الأستانة في بدايته لم يكن واضح المآلات، ولكن مع انطلاق جولاته أصبح من الواضح أن وفد الفصائل تحول إلى شاهد للشرعنة فقط، وأنه لا مصداقية لأي اتفاقية ولا أي ضامن، بعدما نقضت روسيا مرة بعد مرة الاتفاقيات التي وضعتها هي بنفسها، وأن ما يجري هو رسم مناطق تهجير السوريين ونفوذ الدول وليس مناطق وقف تصعيد.
ومع الأستانة 8 وإضفاء طابع سياسي على المسار كان المشهد فاضحاً ومخزياً، ولم تعد مسألة تأدية الدور المرسوم استنتاجاً ضمنياً للمحللين، وإنما هو ما يصرح به أدوات الدول أنفسهم، والذين لم يعبؤوا بمخالفة إجماع الشارع الثوري والمعارض على رفض مؤتمر سوتشي، وذهبوا وناموا في مطارات الذل فوق الأحذية لأجل البقاء على أدوارهم، وهو ما تكرر من خلال تصريحاتهم قبل أيام في مديح مسار الأستانة رغم أنه ترافق -إن لم يكن أدى- مع تهجير كل مناطق الثوار فيما عدا نصف إدلب ودرعا، حسب الدور المرسوم.
على قوى الثورة والمعارضة والنشطاء أن يكفّوا عن النظر إلى مشاكلهم الوطنية بعين الدول الأخرى، لا مسألة الأقليات يصلح لها الخطاب السلفي الخليجي أو دورات الـ NGO’s، ولا مسألة الأكراد يصلح لها المنظور التركي، ولا مسألة رحيل الأسد خاضعة لتحولات الدول العربية ومواقفها، ولا يصلح أيضاً التعويل على أمريكا وإسرائيل في مواجهة مشروع الاحتلال الإيراني، ولا الاكتفاء بموقع المراقب أو من يمرر مخططات “الحلفاء” تحت مبررات الواقعية، فالتحالفات تقوم على هدف مشترك وليست تحالفات مصالح شخصية يتغير لأجل إبقائها الهدف.
الخلاصة أن فهم الواقع الحالي على مرارته هو ضرورة لأجل تجاوزه والعبور منه نحو موجة أخرى للعمل الثوري والتحرري من نظام الأسد وقوى الاحتلال الأجنبية، وإعادة ترسيم العلاقة مع تركيا بوضوح وجرأة في منطقة الريف الشمالي ضرورة لأجل عدم القبول بواقع الإذلال والتبعية ولا الوصول إلى صدام عنيف قد تكون آثاره سلبية على الجميع.
وهذا يستلزم إعادة تعريف العلاقة بيننا وبين الدول، والعودة للانطلاق من دورنا ومشروعنا وأولوياتنا، ونون الجماعة هنا المقصود بها جميع المؤمنين بثورة الكرامة التي أعلنها السوريون منذ آذار 2011م، والمؤمنين باستمرارية العمل والنضال لأجل تحقيق أهدافها وقيمها وتحقيق العدالة من المجرمين، هذه القيم التي استشهد لأجلها نصف مليون سوري والمتمثلة أولاً بإسقاط نظام الأسد بلا أي مواربة، والمؤمنة بحرية وكرامة السوري وحقوقه والوصول إلى دولة وطنية ديمقراطية تعددية، وهي الثورة التي لا يمكن أن تجتمع مع قبول الذل أو الصمت عن كلمة الحق أو التساهل في الدفاع عن حقوق السوريين وكرامتهم لأجل رضا الدول وأولوياتها الخاصة.