مأساة درعا البلد وهزيمة سوريا

نوفمبر 29, 2022

سامر السليمان

مقالات

شهران وأزيد مرّا على حصار النظام لأحياء درعا البلد. في الأسابيع الأخيرة تمَّ إغلاق جميع المنافذ، وتلاه نقصٌ حادٌّ في الخبز والحليب والوقود ومختلف المواد الغذائية، وليس هناك أيّة نقطة طبية؛ فقط هناك قادة شجعان، يناورون بكل السبل لتفادي حدوث مقتلة جديدة، وحينذاك ستكرّ المسبحة، وسيدخل النظام إلى بقية مناطق درعا الغربية، وسواها. محاذاة درعا لإسرائيل وللأردن ربما منع النظام وروسيا من استخدام الطيران؛ مفاوضو درعا يعلمون ذلك، و”يلعبون” على الزمن وترغيب روسيا بالخضوع لها، شريطة إبعاد وباء النظام وإيران عن مدينتهم؛ وآخرُ مقترحاتهم، أن ينضم المقاتلون في تلك الأحياء إلى الفيلق الخامس، التابع تبعية كاملة للروس.

رسائل قادة درعا البلد لأهل درعا ولسوريا: تضامنوا معنا الآن، وهذا سينقذكم من حصاراتٍ ومقتلات مستقبلية، لطالما عاشرها السوريون منذ 2011. كانت الاستجابة ضعيفة، وسرعان ما انتهت، ولكن النظام لم يوقف الحصار، وفي الأيام الأخيرة، أَكثرَ من عتاده وقواته والمليشيات الإيرانية، تمهيداً لعمليةٍ عسكرية تنهي مهد الثورة. يتصرف النظام بعقلية الانتقام، ويريد “زراعة البطاطا” بدلاً من أهل درعا، الذين رفضوا التهجير، وناوروا من أجل البقاء منذ تسوية 2018.

لم تتجدّد الثورة كما توهم كثيرون، ولم يتضامن مع أهل درعا في المنافي أعدادٌ تذكر، وفي مناسبة ضرب الكيماوي في21-10- 2013 أيضاً لا يكاد يتَذكّر السوريون في المنافي الواقعة المؤلمة؛ درعا متروكة وحدَها هذه الأيام، وقد لا يتأخر النظام عن اجتياحها. يوقف كلَّ ذلك اتفاقٌ بين روسيا وأميركا إزاء المدينة التي سُلمت للنظام بعد اتفاق بوتين- ترامب 2017، وبضمانة روسيا والأردن وأميركا تمّت التسوية، وتتضمن الإبقاء على السلاح الخفيف، وتسليم الثقيل والمتوسط، وهو ما حدث، ولكن النظام فسخ تلك الاتفاقية ويريد الخفيف المنزلي! واعتقال مئات المسلحين؛ والحدث الأخير تمّ بعد مقاطعة المدينة للانتخابات الرئاسية الأخيرة. إذاً هو عقاب وانتقام وتَجبُّر، وربما رغبة بالشعور بوهم الانتصار.

يحاصر النظام درعا البلد، في حين هو على طاولة المساومات الدولية، وورقة بيد الروس والإيرانيين الذين ينتظرون صفقة مناسبة للبيع. المعارضة المنقسمة على نفسها، وحتى نقادها، والراغبون بتغييرها، وآخر تلك “التقليعات”، ” المؤتمر الوطني السوري لاستعادة القرار والسيادة” الفاشل، والذي عقد بين 21- و22 آب الحالي، لم يعد لها قيمة معتبرة، وأهمية تذكر، فكتلها تابعة لهذه الدولة أو تلك، وكارهة لبعضها بشكل حاد، وليس من نهايةٍ قريبة لانقساماتها ولها.

النظام الذي يُطبِق الروس عليه الخناق أرسل وفداً أمنياً لواشنطن، بهدف تسويق نفسه لديها، وكي يقلب ظهر المِجنّ للروس والإيرانيين، ولكن حجم الانتهاكات المرتبطة به، وضعفه الشديد، منعا الأميركان من شرائه. نعم يمكن للنظام أن يفعل ذلك، حيث ما تزال روسيا تسمح له بهامشٍ من الحركة وكذلك الإيرانيون، فهو يتحرك على هوامش الاختلاف بين خلافاتهما. زيارة ذلك الوفد، كانت هرباً من اتفاقية أمنية تحاول روسيا فرضها عليه، وفيها تصبح سوريا جزءاً من المجال الأمني الروسي كجزيرة القرم مثلاً، وبذلك تتهشم قدرة النظام على القيام بسياسة مستقلة أو المناورة مع إيران. الاتفاقية الأمنية، ستفرض خروجاً لإيران وإيقافاً للعمليات العسكرية الإسرائيلية على الأراضي السورية كذلك؛ كلام بايدن بأن هناك مناطق أخطر من أفغانستان، ربما تتضمن هذه الفكرة بالذات.

هناك ما يشبه المسلمة أن أميركا تريد لروسيا أن تتسلّم سوريا “انتداب” ولكن ليس أن تلحقها بها بشكل كامل. أميركا بدأت مؤخراً بفرض عقوبات على سوريين مرتبطين بالنظام وبشخصيات مجرمة من هذا الفصيل أو ذاك، وهم معارضون للنظام. وأيضاً لم تغير سياستها التعاونية مع روسيا بحدودها الأولى، كالاتفاق على استمرار فتح معبر باب الهوى، واعتماد سياسة الإنعاش المبكر، والأخيرة هي ما سيتم التواصل حولها بشكل دقيق مع روسيا في الأشهر المقبلة.

هناك من رأى أن أميركا قد تنسحب من سوريا كما فعلت مع أفغانستان، الرأي هذا لا يقيس المسائل جيداً، وينساق مع أوهام “الممانعة والمقاومة” أكثر فأكثر. لا تتكلف أميركا شيئاً يذكر في وجودها في شرق سورية، وهي ليست موجودة باتفاقية ما مع النظام، كما العراق وأفغانستان، وهناك الحاجة لمراقبة السلوك الإيراني على طول الحدود السورية العراقية، وهناك المصالح الإسرائيلية التي تفرض البقاء في سورية. إذاً روسيا المندفعة لإكمال احتلال سورية وضمها إليها أمنياً، وليس فقط اقتصادياً، تخطئ كثيراً في أوهامها بأن أميركا ستنسحب، وأن الشعب لن يتذمر وينتفض من جديد؛ قلنا حتى النظام بدأ يحاول التملص، فكيف ببقية الشعب الذي تعامله روسيا كقطيع للقتل والجوع والذبح والتجويع والحصار وتجرب الأسلحة عليه!

مأساة سوريا وليس درعا فحسب، تتضاعف يومياً، ولا تظهر ملامح لحلّ سياسيّ أو مشروع وطني قريب، يرمم الانقسامات الشديدة التي أصبح السوريون عليها، وتبعية كتل شعبية لهذه الدولة أو تلك. المأساة تكمن في أن سوريا لن تتقسم، والتقسيم نرفضه قطعاً، بل ستتعفن أكثر فأكثر، وقد نشهد عودة للحروب على أراضيها وعبر شبابها في حال تأزمت الخلافات بين الأميركان والروس والأتراك والإيرانيون. الحروب أصلاً لم تتوقف رغم رسم الدول المتدخلة في سورية هذا البلد إلى أربع مناطق نفوذ وتابعة لها.

في هذا الوقت، وحصار درعا، نرى قامة دينية عالية، وهو أسامة الرفاعي، يهاجم المرأة، ومنظمات المجتمع المدني، وبالكاد يذكر حصار درعا أو الأزمة الاقتصادية العنيفة التي يعيشها السوريون. أيضاً يتسارع إسلاميون كثر إلى مباركة انتصار طالبان دون أن تتضمن مباركاتهم تلك حثها على انتهاج النظام الديمقراطي في أفغانستان، وتشكيل حكومة شاملة لكل الأطراف الأفغانية، كما يحاول ذلك قادة طالبان أنفسهم. نعم لدى هؤلاء القادة فهمٌ أوسع بما لا يقاس للسياسة ولمشكلات بلادهم، من إسلاميي سوريا الذين تضامنوا معها بقوة، في حين لم يفعلوا ذلك مع درعا المخنوقة.

لا يتجنى الكاتب هنا على الإسلاميين، فقد نادى أهالي درعا بضرورة التضامن، فماذا كان عليه الحال في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لتركيا؟ لا شيء إلا بعض المظاهرات الخافتة، بينما كان فتح الجبهات هو الفعل الوحيد الذي سينهي ذلك الحصار.

سوريا بكاملها مهزومة، وفقاً للعجالة التحليلية أعلاه، ورغم ذلك طُرحت الحكاية السمجة مجدّداً؛ ففي السويداء تشكل حزب اسمه اللواء السوري، وله جناح عسكري، يسمى نفسه “مكافحة الإرهاب”، ويسعى لـ “إدارة ذاتية”، وفي درعا هناك من قال بـ “سوالف” كهذه، ولكن قادة درعا رفضوا الأمر. وفي الاتجاه ذاته رأى بعض الكتاب الكرد أن الشكل الأمثل والوحيد للعلاقة بين أقاليم سوريا هو الإدارة الذاتية والفدرالية.

إن سوريا تستدعي مشروعاً وطنيّاً، ينهض بكل المدن السورية، وبعيداً عن التفكير العصبوي أو الطائفي أو المناطقي حيث الرفض الأكبر للنظام بسبب تلك الممارسات! التفكير السابق لا يعبر عن أغلبية السوريين، فهناك وجه آخر، ينطلق من وطنية السوريين ويرفع حق المواطنة للجميع، ودولة لا مركزية بالمعنى الإداري، وإعادة الحقوق لكافة السوريين، وكائناً من كانوا؛ هذا الوجه هو ما يعبر عن سورية الرافضة لمختلف أشكال الانقسام. الوجه هذا هو الأضعف، والأكثر تعبيراً عن ثورتها وطموحات أهلها التي سرقتها المعارضة وأجهز عليها النظام بخياره الأمني.

المصـــدر

المزيد
من المقالات